Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

نشأ الأدب البوليسي في أحضان الحضارة الغربية، وكانت بدايات هذا الفرع الأدبي المستجد في القرن التاسع عشر على يد الكاتب الأمريكي إدغار آلان بو، وفي القرن العشرين ازدهر هذا النوع الأدبي، ولاقت الروايات البوليسية رواجًا هائلًا، وتقريبا هذا هو النوع الأدبي الذي اكتسح العالم وما يزال، وبيعت منه مئات الملايين من النسخ.

الرواية البوليسية محبوبة جدًا من القراء، وتتميز بإمكانية قراءتها في جلسة واحدة، إذ غالبا ما تكون وسطًا بين القصة القصيرة والرواية، فهي (قصة) تركز على حدث واحد هو الجريمة، ولعل مصطلح (النوفيلا) هو المناسب لها.. لولا أن هذا المصطلح مبهم إلى حد ما، ولا يوجد مقابل له في اللغة العربية.

عتاة السياسيين في الغرب عندما يريد أحدهم إراحة دماغه من التفكير المفرط، يلجأ إلى قراءة الروايات البوليسية، فهي أيضا وصفة علاجية مضمونة لمن يعانون من كثرة التفكير، ولها فوائد أخرى للدماغ يمكن لمن يهمه الأمر البحث عنها، وسيجد المصادر التي تشرح ذلك، فهي كلعبة الشطرنج التي تمرن الدماغ وتلهيه عن الأفكار الضاغطة المتسلطة.

إذا كنت كاتبًا غربيًا ولديك موهبة كتابة الأدب البوليسي، فإن هذا يشبه العثور على مغارة مليئة بالكنوز، وغالبًا سيحصد هذا الكاتب المحظوظ ثروة، وهو ما يزال في ريعان شبابه.

أما إذا كنت كاتبًا عربيًّا، فإن هذه الموهبة لا تسمن ولا تغني من جوع، فالأدب البوليسي – على عكس كل التوقعات – لا ينجح في العالم العربي!

السبب أن الأدب البوليسي لا ينجح في دول ذات أنظمة بوليسية.

في الدول الديكتاتورية لا يوجد نظام قضائي مستقل، وأجهزة الشرطة في معظم الأحيان فاسدة.

حين نقرأ الرواية البوليسية الغربية نلاحظ أنها مكتوبة لمجتمعات تحترم القوانين، والشرطة على درجة معقولة من النزاهة، والقضاء عادل ومستقل. 

حين نقرأ روايات أجاثا كريستي التي عاشت في كنف المجتمع والنظام البريطاني، سوف نلاحظ أن البناء الروائي يمضي وفقًا للخطة التالية:

(1) حدوث جريمة يكتنفها الغموض.

(2) التحقيق في الجريمة.

(3) الكشف عن مرتكب الجريمة.

وهذا هو المخطط السائد عمومًا في كل أدب الرواية البوليسية المكتوبة في المجتمعات المتقدمة.

لكن هذا المخطط بصيغته الغربية لا يتناسب مع مجتمعاتنا العربية.. ربما لكتابة رواية بوليسية لمؤلف ينتمي إلى دولة عربية سيكون عليه العمل على مخطط معكوس:

(1) حدوث جريمة فاعلها معروف.

(2) التحقيق في الجريمة يخضع لمؤثرات قبلية أو سياسية أو مالية.

(3) مرتكب الجريمة لديه فرصة للإفلات من العقاب إذا كان قويًّا.

أيّ مؤلف عربي يتجاهل هذه الحقائق الفنية، ويصر على كتابة رواية بوليسية معقمة ونظيفة على غرار الروايات البوليسية الغربية، رواية منبتة من جذورها الجغرافية، فإنه لن يقدم سوى روايات مصطنعة، متقنة الصنع ولكن مزيفة، حالها حال الورود البلاستيكية.

ينبغي التشديد على أن استخدام القالب الغربي للرواية البوليسية في كتابة روايات بوليسية عربية يعني الإقدام عمدًا على تسطيح الوعي، وتزييف الحقائق عن الوضع السائد.

يحتاج كاتب الرواية البوليسية في اليابان أو النرويج مثلًا إلى أقصى درجات الذكاء ليُعَقِّد خيوط حبكته البوليسية، ولكن بالنسبة لكاتب من دول العالم الثالث الفقيرة فإن عليه أن يُنحِّي الذكاء جانبًا، ويتخلى عن فكرة الجريمة التي نُفذت بذكاء خارق، وأن يفكر في أمور أخرى أكثر حيوية وجدوى لمجتمعه.. عليه أن يتحلى بالشجاعة لفضح تلك الجرائم الجنائية التي يرتكبها أشخاص منحرفون ثم تقوم مراكز القوى بتوفير الحماية لهم.

هناك عوامل محلية في كل بلد عربي تؤثر على مجرى التحقيق الجنائي، وهناك ضغوط يتعرض لها القضاء، وهناك اعتبارات طبقية وطائفية وعشائرية قد تعيق تحقيق العدالة بصورة مطلقة، العدالة نسبية في بلداننا العربية، أيّ أنها تتناسب مع مكانة الضحية الاجتماعية والطبقية والسياسية. 

حرمة الدم ليس لها الاعتبار نفسه دائمًا.. إذا كان القتيل من أدنى الفئات الاجتماعية فإن دمه سيكون على الأرجح رخيصًا، ولن يعاقب القاتل بالقصاص أو السجن، وسيتم الاكتفاء بدفع الدية.

على كاتب الرواية البوليسية أن يدرس جيدًا التشريعات في بلده، فكثير من البلدان العربية لا تعاقب الأب الذي يقتل ولده العاق، أو الأخ الذي يقتل أخته بمبرر غسل الشرف.

في أرياف اليمن مثلًا يتم عرض الجرائم الجنائية على شيخ القبيلة، وهو الذي يصدر الأحكام.. وأحكامه تلتزم بها جميع الأطراف بما في ذلك أجهزة الشرطة، حيث يمثل الشيخ سلطة أعلى من سلطة مسئولي الأمن والشرطة.

لا أحسب أن السياق التاريخي الذي نحن فيه يشجع على ازدهار كتابة الرواية البوليسية.. سوف تزدهر الرواية البوليسية العربية عندما يكون الحاكم منتخبًا، ومدة رئاسته لا تزيد عن فترتين رئاسيتين، وعندما يكون القاضي في مأمن هو وعائلته من الانتقام والتنكيل والتهديد بالقتل، وعندما يكون جهاز الشرطة في خدمة الشعب لا هراوة مُسلطة عليه.

من المهم في الرواية البوليسية أن ينال المجرم جزاءه، أن يندم على فعلته، أن تصل إليه الرسالة بوضوح وهي أنه مذنب.. وهذا حتى الآن غير متأتٍ للرواية العربية البوليسية مع الأسف، وخصوصًا إذا شاء المؤلف تحري الصدق الفني. 

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات