Accessibility links

إعلان
إعلان

عندما سقط رأسي في الشارع، لم أكن على أيَّة حال سألتقطه، غير أنَّ الناس كانوا يصرخون: “رأسك.. رأسك”، فقلتُ من غير المناسب أن أترك رأسي أمام الناس. مَدَدت يدَيَّ، وبرفق أخذته.

ركَّبته على رقبتي الأطول في العائلة، وعلى عُجالة استرسلتُ المشي إلى الشارع المجاور الذي سيمر منه الباص الذي سيقلني إلى حيث واعدتُّ ريحانة.

“بااااااب اليمن؟”، صِحتُ لسائق الباص فأومأ لي بالإيجاب، فصعدتُّ.

 

 كان الباص يصدح بأغنية “عَلم سيري”، يمشي بتمهل مخافة أن يقع في إحدى حفر شوارع “شعوب” فيضطرب الباص وتسقط الرؤوس، غير أن السائق كان قد تحمّس مع إيقاع الأغنية الذي بدأ بالتسارع: “علم سيري علم سيري… ألا بسم الله الرحمن”، وأسرع قليلًا. صَرخ عليه أحد الركاب:

“هناك نساء في الباص”، فأبطأ السائق سرعته على الفور، فمن العيب أن يسقط رأس امرأة. غير أنَّ كل رؤوس النساء التي رأيتها تسقط تكون مُلثَّمة، ولا يمكن أن يُرى منها شيئا. بالرغم أني غير مكترث بهذا الأمر برُمِّته لا أنفك أصرخ في الباص إذا صادف وهناك نساء أن يبطئ لأني أشعر بعدم الارتياح أثناء اضطراب الباص وهو يَمر فوق حُفرة كبيرة.

 

توقّف الباص فجأة أمام مُسِنٍّ وزوجته. صعد الشائب بجواري وذهبت العجوز صوب النساء. ماذا لو أتبادل بالرأس مع هذا الشائخ. فيّ فضول متعطش للتسلل إلى حياته التي لا أدري ماذا ستكون. يبدو سبعينيًّا في العمر وحياته لابد أن تكون مثيرة للاهتمام. شهيتي في استعارة الرؤوس جامحة ولا أقدر على كبحها.

قبل شهر وافقتُ بصعوبة لإعارة رأسي لابن عمي بشير الذي عاد من “شرعب” بلا رأس. ذلك المساء حرّك يديه على شكل كُرة طالبًا رأسي، فرفضتُ رفضًا قاطعًا. أكره أن أقضي وقت المغرب الكئيب دون أفكار أو حديث، وكذلك النوم حتى إنّي استغنيت عن عادتي السيئة، وهي النوم بجسدي فقط، بينما رأسي أضعه في النافذة مع سمّاعة بلوتوث في أذنيه. نظرت نحوه وشعرت بالشفقة فليس هناك ما هو أكثر مللاً من أن تقضي طوال اليوم بمثل حالته.

ذكرياتنا مشتركة من الفترات المتوالية التي صار يستعير فيها الرأس. لقد ذهب بالأمس إلى المسجد يصلي المغرب. أعرف رأسي أنه يفعل ذلك بصعوبة، ولكنه أرغمه بقوة. أسمع الآن في رأسي إمام الجامع وهو يقرأ “سورة الضحى” في الركعة الأولى. بالطبع عاش صراعًا معه تمامًا كما لو أنك تحمل أعضاءً متناقضة. ذهب أيضًا البقالة، اشترى من تلك السجائر الرديئة، جلس يتأمل في المارة ويدخّن باسترخاء. لا أسرار هذه المرة، ففي بعض الأحيان يكون جسده محتفظًا ببعض الذكرى المُشوِّقة التي يفرغها برأسي دون شعور.

 

ما يَشدُّني لاستراق شيء من ذاكرته هو تلك الذكرى الدافئة، تفاصيل يوم من أيام العيد على ما يبدو؛ على سقف رمادي وسط أفراد عائلة، هناك “لحم حنيذ” و”لحم ممروق” بأوانٍ فخارية وُضِعتْ في التنور، والتي تقدمها نساء كثيرات إلى السُّفرة، رائحة ألعاب نارية، أطفال يرتدون ملابس جديدة لها سطوة رائحة تسلبني كلما استنشقتها. رائحة اللحم الذي ينضج راقصًا على الفحم وهو موضوع في قصدير، ويدُ أمٍّ مُنقّشة بالحناء تلتقطُ أواني الطعام الفارغة من السُّفرة، لحظات ذكرى حميمية أراقبها من عينَيّ حاملها وهو يشعر أنه لن يكون سعيدًا أكثر من ذلك اليوم.

لم أستطع مقاومة فضولي عن هذه الذكرى وسألته في أحد الأيام عن سرها إذ لم يعش يومًا في قرية كما بدت فيه اللحظات. هل يمكن أنْ يكون قد أعاره لشخص آخر.. لكنه ليجيب عن أسئلتي كان يحتاج إلى رأس فائض عن الحاجة.

استعدتُّ نَفْسي من شرودها بينما انتبهتُ أنَّ السائق انعطف يمينًا. “عيادة البيروني”، قرأتُ اللافتة مع هرولة الباص الخاطفة، هذا كل ما أعرفه في هذه الطريق المليئة بأسماء محلات يصعب حفظها. ظل الباص يسير بلا اكتراث لكل الأفكار التي تغلي في رأسي. أنزل العديد من الركاب الذين ظلوا يوقفونه في مسافات متباعدة عن بعضها. بعد الانفكاك من زحام الظهيرة وصل الباص إلى باب اليمن، ونزلتُ.

 

سقط رأسي للمرة الثانية، تدحرج إلى الأسفل وظللت أركض بعده كما لو أنه عُلبة فارغة تحرِّكها الريح. أوقفه أحد المارة وأعطاني إياه، كنتُ سأقول له “شكرًا”، إلا أنني لم أنتهِ بعد من تركيب الرأس.

أعدتُّ تصليحه وأخرجتُ مِشطًا مع مرآة من الحقيبة، مشطتُّ شعره السلس، نفضتُ الغبار عنه، قلت له: “رأس طيب”، ومسحتُ عليه كما لو أنه كلبي. مضيت في الإسفلت أمشي حتى انعطفت يمينًا تجاه صنعاء القديمة لأنتظر ريحانة التي ستأتي بعد ربع ساعة.

الجو حار كجهنم، استظللتُ بشجرة وارفة. جلستُ أتأمل المشاة، وجوه كئيبة، جثة كلب متعفنة يدعسها الناس دون مبالاة، شخص يضع رأسه على مقعد كأنه جاكت ويستريح، يتركه ويمضي لشراء الآيسكريم. ليس الجميع عندهم فضول بشأن الرؤوس، فالذي صرت أعرفه في الآونة الأخيرة بعد أن نشبت الحرب أنَّ الناس يبتعدون عن الرأس حتى لكأنه لُغم، هربًا من ذكرى مؤلمة يستهويهم الرأس بتجريبها.

أتت ريحانة بقُبّعتها الجميلة، ومضينا نتسكع في صنعاء سُكارى بلقاء بعد اشتياق. قلتُ لها: “الجو حار جدًّا، دعينا نقتفي الأزقة حيث الظل”، كانت هي تتصبب عَرقًا أيضًا فوافقتْ.

مشينا ونحن نتكلم ولحظُ عيوننا يتمنى لو نختلي من كل هؤلاء الناس فجأة، ربما تحت عربية بائع الموز، أو في حانوت بيع العقيق، نترك الجميع خلفنا ونظل نُقبّل بعضنا ونسمع الأغاني فحسب. تخيّلت هذا مع رائحتها التي تتسلل إليّ. تُعجبني رائحة ريحانة.

‏ذهبنا إلى فندق “برج السلام” وهو مزارٌ للسياح الذين انقطعوا عن صنعاء. في أعلاه مشهد ساحر لصنعاء القديمة والجديدة أيضًا. دخلتُ:

“مرحبًا، أريد أن نطلع سطح هذه العمارة”.

“هل لديكم بطائق عائلية”، أجاب عامل الاستقبال.

قلت له: “لا”، وكذبت عليه: إنها أختي!

تبدو ريحانة كما لو أنها أختي ببشرتها القمحية وعينيها الواسعتين. إلا أنه لم يقتنع سوى بالبطائق العائلية. حاولنا معه بإلحاح وبعد جُهد أمَرنا بنبرة فظًّة أن ننصرف.

شعرتُ بالاستياء ثم تابعنا تَسكّعنا إلى “باب اليمن” وسط أعين تحفنا بريبٍ، وأخرى تحاول إقناعنا بشراء ملابس صنعانية للأطفال، خواتم مُزيَّفة من الفضة، وأشياء لم أفكر يومًا أن أشتريها لأنها بلا أهمية. اقترحتُ أن نمضي صوب بائع شراب الزبيب، فمذاق شرابه لا يُقاوَم. لكنه قال إن كمية الشراب نفدت، واقترح: هل تريدون شعيرًا؟ كذلك شراب الشعير أشعر دائمًا بأنه بلا أهمية أيضًا. عدنا إلى وسط صنعاء القديمة من المكان الذي ابتدأنا منه.

 

طُفنا في أزقة البيوت. بينما كانت ريحانة تمشي وتتطلع لبيت صنعاني فريد، قالت متعجِّبة: “ما هو الشيء الجميل في صنعاء القديمة.. وهي مجرد بيوت عادية”، أجبتها بأنَّ فكرة البناء الهندسي قديمة، وأنَّ هذه الزخرفة كانت موجودة في رأس أحدهم منذ قرون بعيدة وعاشت إلى الآن. بدا لي الأمر أشبه بالخلود، وهذا شيء يدعو للدهشة، لكنها لم تندهش.

شعرت بالجوع مع أنّي أكلتُ قبل خروجي. طاقتي بدأت بالانخفاض. يزعجني هذا الشعور، أحسُّ بأنني سأهوي على الأرض. لا أدري، ربما لم آكل كثيرًا في الغداء، لكننني أكلت ولم أجد ما يبرر هذا الجوع والتلاشي. يستطيع أحدهم أن يجلس ثمانية أسابيع بلا أكل حسبما قرأت مؤخرًا، أيْ شهرين، يعني يلزمني وقت كي تقل طاقتي أو ينخفض السكر أو أموت مثلًا، لكنني ها أنذا أشعر بطاقتي تخور.

 

أخبرتُ ريحانة أن نستريح قليلًا ونأخذ ساندويتش. فضّلتْ هي أن أذهبَ فوافقتُ. أخذت ثلاثة ساندويتشات بيض مسلوق، وتحت شجرة جلسنا نأكل. أثناء الأكل سألتني عن السعادة.

أجبتها: “أعتقد أنه ليس من حقي الحديث عن السعادة لأني لم أذقها بالمرة”.

ريحانة لا تعلم بالذي أخفيه عن الجميع، وهو شعوري بقلق هائل حين أكون في مجلس أو في مكان لا أشعر فيه بالراحة، أتخيّل ضربات قلبي تتسارع وأنه سيغمى عليّ. تساءلتُ من أين يأتي هذا؟

هل هو القولون العصبي الذي بت أعاني منه كثيرًا، أم مرض نفسيٌّ لا أعرفه. بحثت في الإنترنت لكن لم يفدني بشيء. داهمتني هذه الحالة الآن وأنا ما زلت جالسًا مع ريحانة شارد البال. أحسست بخوف يتدفق داخلي كسيل خفيف، شعرتُ بِدَوّي خافت داخل أذنيّ. نهضتُ، قلت لريحانة أشعر بقلق ولا يمكن أن أستمر في الجلوس. لكنها ظنّت بأني أتهرَّب من الحديث معها، ولم تصدِّقني. فلم يكن عليّ إلا أنْ أخلع لها رأسي لتتأكد.

 

*عبده تاج – الفائز بالمركز الأول في جائزة الربادي للقصة القصيرة.

   
 
إعلان

تعليقات