Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*
قبل أربعة آلاف عام قام النبي إبراهيم، وبإرشاد من جبريل عليهما السلام، بتحديد حدود الحرم المكي. والأمر المثير للدهشة أن هذه الحدود ما تزال قائمة حتى اليوم!

قال النووي في كتابه شرح المهذب عن الحرم المكي:

“واعلم أن الحرم عليه علامات منصوبة في جميع جوانبه. ذكر الأزرقي وغيره بأسانيدهم، أن إبراهيم الخليل عليه السلام علَّمها ونصب العلامات فيها، وكان جبريل عليه السلام يريه مواضعها، ثم أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بتحديدها، ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية رضي الله عنهم. وهي إلى الآن بينة ولله الحمد”.

ومن خلال هذه العلامات يمكن تقدير حدود الحرم المكي كما يلي:

من الشرق إلى الغرب تقدر بحوالى 32.5 كم، ومن الشمال إلى الجنوب تقدر بحوالى 27 كم، وبذا تكون مساحة الحرم المكي حوالى 880 كم، المأهول منها اليوم بالسكان حوالى 88 كم.

ومن أحكام الحرم المكي تحريم القتال فيه، وسفك الدماء وحمل السلاح، وتغليظ دية الجناية، وتحريم صيد الطيور والحيوانات، وسوى ذلك من الأحكام التي فصَّلها الفقهاء في مصنفاتهم.

ألا يستطيع اليمانيون الاقتداء بسنة النبي إبراهيم، والإجماع على تكريم صنعاء بجعلها مدينة محرمة؟ لا تسفك فيها الدماء، ولا يحمل فيها السلاح، ويُمنع قطع شجرها وصيد الحيوان فيها؟

هل بالضرورة أن يرسل الله إلينا نبيًّا لكي نقوم بخطوة نافعة كهذه؟؟ أين حكماء اليمن ليتفقوا على تبجيل عاصمة بلادهم، ومنحها قانونًا خاصًّا بها يحميها من الصراعات السياسية وغزوات القبائل؟؟

لعل الوحيد الذي فكر في منح صنعاء صفة القداسة لشدة حبه لها، لم يكن يمنيًّا مع الأسف، ألا وهو أبرهة الأشرم، وربما لم ينجح مشروعه لأنه حاول فرضه بالقوة، بالإضافة إلى كونه أجنبيًّا ومحتلاً للبلد.

وفي العصر الحديث أجنبي آخر ذاب عشقًا في صنعاء، وكرس جهوده حتى أدرجتها اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي في عام 1986، وهو المخرج الإيطالي (بيير باولو بازوليني).

وكما نلاحظ فإن الأجانب هم الذين قدَّروا صنعاء حق قدرها، وعلموا أنها جوهرة نادرة لا تقدر بثمن. وأما اليمانيون فسلبيون، يعبرون عن عشقهم لها بالأقوال لا بالأفعال.

 

كابول شقيقة صنعاء

أكثر دول العالم شبهًا باليمن هي أفغانستان، لذلك يمكننا أخذ العبرة مما يحدث هناك.. فقد تابع العالم لحظة بلحظة السقوط المدوي للنظام الأفغاني الموالي لأمريكا، وسيطرة ميليشيات طالبان على مدينة كابول يوم الأحد 15 أغسطس 2021.

انتصار طالبان هو رد فعل على الاحتلال الأمريكي لبلادهم، ولكن ماذا بعد؟ لن تتمكن طالبان من حكم أفغانستان لوحدها، والتناقضات العرقية والطائفية سرعان ما ستطفو على السطح، وستدخل البلاد في دوامة حرب أهلية دموية لا نهاية لها.

لقد جرب الأمريكان عدة استراتيجيات فشلت كلها، لكن كانت هناك استراتيجية واحدة يمكنها أن تنجح، وأن تشكّل صمام أمان للشعب الأفغاني، ولكن يبدو أنها لم تخطر ببال السياسيين الأمريكيين رغم دهائهم.

الاستراتيجية الصحيحة لحل النزاعات في دول مضطربة سياسيًّا هي تأسيس مدن محرمة، على غرار الاستراتيجية التي طبقها النبي إبراهيم في مكة المكرمة.

لو تم تحريم مدينة كابول بمواثيق مغلظة، توقع عليها كافة القبائل الأفغانية، وجميع الأطراف السياسية بما في ذلك حركة طالبان، فإننا لم نكن لنشهد تلك المناظر المؤلمة للأفغان، وهم يتدافعون على سلالم الطائرات للفرار من مسلحي طالبان.

سيعترض واحد قائلاً إن الأفغان إذا وقَّعوا على المواثيق بتحريم مدينة كابول، وانسحب مقاتلو طالبان منها، فإن الشعب الأفغاني سينزح تدريجيًّا إلى كابول، ولن تبقى سوى شراذم متفرقة في مدن وقرى أفغانستان الأخرى؟؟ إذا حدث هذا – وهو المتوقع بالفعل – فإنها ستكون رسالة شديدة الوضوح إلى قادة طالبان، بأن فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية لم يعد مرحبًا بها في أفغانستان، أو حتى في أيّ مكان آخر من العالم.

استراتيجية المدينة المحرمة التي تحكمها قوانين مدنية معتدلة، هي السبيل الأفضل والمنطقي لإقناع كل طالباني في أفغانستان وخارجها، بالتخلي عن تشدده طوعيًّا، وربما يقرر من تلقاء نفسه إلقاء سلاحه، والانضمام إلى صفوف المجتمع المدني المسالم، ليساهم بدوره في بناء مستقبل مزدهر لوطنه.


صنعاء مدينة محرمة

صنعاء هي المدينة اليمنية الأنسب لتحظى بالتشريف والحصانة، فلا يحمل فيها سلاح، ولا يؤخذ فيها بثأرٍ، ويخضع كل من سكن فيها لأحكام القوانين المدنية.
وصنعاء لها سابقة تاريخية، فقد حظيت بهذا الوضع الخاص من أقدم الأزمنة، وإلى عهد قريب كان يمنع حمل السلاح فيها، وأخذ الثأر فيها، فهي مدينة أهلها مسالمون، ذات أسوار منيعة، ولا يدخل عليهم من أبوابها إلا من أتى إليهم بسلام.

يمكن لقبائل اليمن الكبرى مثل حاشد وبكيل وقبائل طوق صنعاء، أن توقع ميثاقًا يشهد عليه الله والعالم بحرمة مدينة صنعاء، وكذلك تُوقّع سائر الأحزاب السياسية على الميثاق، ليكون لصنعاء حرم خاص بها، فلا يُروَّع سكانها بحرب أو قتال فيها.

إن أيّ شخص يحب صنعاء من قلبه، وليس مدعيًا، سوف يرحب أشد الترحيب باتفاق منح صنعاء صفة “المدينة المحرمة”.

أن يرفرف السلام على صنعاء، هو الحلم الذي تمسكت به هذه المدينة عبر مئات السنين وما زالت. وتمييزها بصفة “المدينة المحرمة” سوف يرفع من مكانتها المعنوية، ويحفظها من كل متربص بها سواءً أكان من الداخل أو الخارج.

إن إيجاد هذه المساحة الجغرافية المحايدة، الخالية من السلاح والمسلحين، هي الخطوة الأولى لبناء السلام في اليمن.

800 كم من الأرض تتمتع بضمان الأمان من جميع الأطراف اليمنية، يمكنها أن تلم شمل اليمنيين بكافة أطيافهم في مجتمع واحد، الكل فيه سواسية، وليس فيه تفضيل لمواطن على آخر.

وأحد الاقتراحات هو تشييد سور جديد – خلفًا للسور القديم – من الأسلاك الشائكة حول حدود حرم المدينة، مع أبراج للحراسة، فلا يمكن الدخول أو الخروج إلا عبر بوابات محددة.

قد يعترض واحد ويتهمني بأنني أسعى إلى عزل النخبة المدنية عن محيطها الريفي، وأنني أرسخ الفوارق الطبقية، وردي عليه أن أجدادنا شيدوا الأسوار حول المدن، ولم يأبهوا لاعتراضات المعتوهين من أمثاله.

وقد يُقبل معتوه أشد خبثًا ليقول لو أنفقتم المال على الفقراء لكان أجدى من إنفاقه على الأسلاك الشائكة وكاميرات المراقبة! والرد عليه أن توفير أعلى درجات الأمان داخل حرم مدينة صنعاء، هو الذي سينقذ الفقراء من شوكة الأقوياء، وسيجلب الاستثمارات التي توفر فرص العمل، وسيضاعف من قوة القانون وهيبة الدولة، فلا يقدر صعلوك أن تسوّل له نفسه العبث بأرواح وأموال الناس.

داخل حدود حرم صنعاء سوف يمنع الرعي، والاحتطاب من أشجارها، والبناء العشوائي، وإطلاق النار، وحمل السلاح، بما في ذلك السلاح الأبيض “الجنبية”، ونحو ذلك من التشريعات التي ستُضفي على المدينة رونقًا من العظمة والمهابة والإجلال، لتكون لائقة كعاصمة لوطن ناجح في حاضره وعريق في تاريخه.

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات