Accessibility links

إعلان

فكري قاسم*

في التاريخ والجغرافيا، اليمن أصل الحضارات الأولى، ومهبط الديانات، وقلب الجزيرة العربية، وموطن تجارة اللبان والبخور، وصاحبة أقدم وأروع الابتكارات لترويض الطبيعة القاسية لصالح الإنسان، وعند كثير من أبنائها المتذمرين: (اليمن الله يلعنها بلاد !).

طيب ليش، وما عملت بك هذي البلاد الطيبة يا بني آدم؟.. والله ما له علم ! المهم يلعنها ويشقدفها ويبخسها ويهين تاريخها وأصلها وفصلها وسنسفيل أهالي أهلها؛ لأنها لم تكن أميركا، ولم تكن السعودية، ولم تكن فارسة أحلامه التي تعيش في بيوت من زجاج..!

صحيح أنها بلاد بائسة وخائبة، وحظها بين الأمم مخيّط بصميل،  وأوجاعها كثيرة، وانتكاساتها متكاثرة، وسمعتها في أسفل سافلين، لكن السبب مش فيها أبدًا، عمر الأرض ما كانت في يوم خائبة.. إحنا السبب في ما وصلت إليه من أحوال لا تسر.

إحنا الخائبين اللي نجعثها، ولا نعرف قيمتها، وندهفها دائمًا إلى مصائر سيئة، راكنين بها على شوية معاتيه يُدخلونها من محنة إلى أخرى دون حساب، حتى كثرت عليها المحن، وصارت هذي اليمن المغمى عليها.

تعرِف يا حبُّوب أن هذي البلاد الطيبة ما في زيها لو تقلب الكرة الأرضية كلها تحت فوق، وتقول لي ليش؟ أقول لك التالي: 

لف الكابتن هنس بلدان العالم كلها في رحلات بحرية كثيرة، ولما شاف سواحل عدن شهق ساع الطفل لما يفرح ببدلة العيد.

ومن جمال اليمن النادر يا حبوب جو كل المحتلين عشان يتصوروا معاها  سيلفي!

وفي اليمن تنوع وثراء مهول يأسرك، وتحس أنك عايش في تجمع دول اللهجات عدّ لك عُدّ يا صاحبي، والمفردة الواحدة تشرح لك كتاب. 

ولما تشوف تنوع الأزياء بس، تحس أن قوس قزح يشتغل خياط ملابس في اليمن، والوجبات في المطبخ اليمني خليط من مطابخ حضارات مختلفة، كلها خالطت معيشة اليمنيين عبر قرون من الزمن.

والعادات والتقاليد اليمنية، كل هيجة معاها ما يخصها من إرث في مجموعة أعراف اجتماعية شبيهة ببعضها، كلها داخل بلاد واحدة.

والتنوع في الطبيعة يا لطيف والسحر.. البحر والجبل والسهل يتكلموا سبع لغات، ولكن محد معه أذن يسمع، والعيون مصابة بالرمد.

وسواحل عدن والمهرة وسوقطرة والحديدة والخوخة وحضرموت وباب المندب وميدي والمخاء وجزيرة كمران وميون وحنيش، كلها عادها عارية  تمامًا كما خلقها الله، وكل من شافها يتحسر ويصرخ في أعماق نفسه: أين أنت يا كلومبوس؟! 

وفي أعماق البحار ثروة هائلة، لكن ما فيش من يكتشفها ومن يسوّقها إلى الناس، والمنافذ البحرية كلها مفتوحة للتهريب ! 

 وكلّ في جبل من جبال البلاد، شد رجلك يا ذاك و”اتعنقل”، وبإمكانك أن تمسي كل يوم فوق ضاحة، وأن تنام معلقًا بين السحب. 

وأنت جالس في قمة جبل صبر، تحس أن ما عدفيش مكان أرفع منك إلا السماء، وتلقى الناس عايشة، والقرى مثل الغمام ملان الجبل، وفي جبال محمية “بُرع”، وجبال حراز والمحويت وكوكبان البيوت معلقة في القمم فوق الصخور.

وفي حجة الطريق بين الجبال يحملك إلى السماء بسيارة، وتشوف تحتك واحد يبني وواحد يزرع، ودخان موفى الحطب شمه يرد الروح. 

 وفي جبال إب وبعدان وحبيش، البساط الأخضر يقول لك: اتفضل ارتاح. وفي وادي السحول وقاع جهران وقيعان صعدة شم التراب عرق يوطل من السماء.

وفي سهول تهامة لون الطين يشبه جلدك، والزرع يشعرك بالشبع وبالارتواء، والأرض براح على مد البصر، والوديان عروق خضر، والسواعد السمر من زمان وهي تنتظر غيث الدولة الوطنية.

وفي حضرموت وشبوة والمهرة والجوف ومأرب يختبئ مستقبل “بلدة طيبة ورب غفور”.

وشوف العمران في صنعاء اليمن، شوف القمريات باتعرف تمامًا أن اليمنيين أول من “هاوز” الضوء، وأول من بنى مجتمعًا حضريًّا. 

وقبل إليزابيث، وقبل هيلاري كلينتون، وقبل شجرة الدر كانت أمنا بلقيس، وكانت أروى بنت أحمد الصليحي، وقبل ناطحات السحب في نيويورك وفي منهاتن ودبي، كانت ناطحات شبام في تريم.

لكن هذه الدرة النفيسة يا صاحبي مشكلتها المستمرة أنها واقعة في أيادي شوية رُباح، وهي الآن عليلة وكسيرة.

وليست على ما يرام، وعندما تتشافى من عللها المتكاثرة ستلعن نفسك كثيرًا لأنك لعنتها ذات يوم دون أي إحساس بالمسؤولية تجاهها. 

* كاتب يمني ساخر.

   
 
إعلان

تعليقات