Accessibility links

إبّ: كُرنفال الطبيعة ومهرجان الإنسان في اليمن


إعلان

أحمد الأغبري:

إنه – حقًّا – جوّ عيد: عيدٌ تعيشه الأرض هُنا، في صيف كلّ عام؛ فرحًا بموسم المطر.. عندما تلثُم السماء قلب اليمن الواقع هنا؛ فينبض بالحياة؛ فتخضر الأرض.

فرحًا بأعراس المطر أعشوشب التراب، وأعرورش الحجر، وتجوهرت الينابيع؛ فصار المشهد كأنه كرنفال أسطوري… لجمال الطبيعة؛ جمالٌ تعجزُ عن تصويره ريشة فنان، كما تحارُ في وصفه قصيدة شاعر !

سلاسل المرتفعات تزهو بغلائل خُضر تنسابُ من قمم الجبال بفرحة طفل مُلقية بدهشة السؤال في وجه القرى المعلقة، وبابتسامة الإنجاز في وجه المدرجات الزراعية، لتمنح السهول والروابي والوديان والجداول، وكلّ شيء هنا  معنى مختلفًا لجمال الحياة…  جمالٌ حيّ تتجسدُ معانيه في كلّ عناصر الصورة.

اللواء الأخضر

في محافظة (إبّ)،  193 كيلو متر جنوب صنعاء، انسكب جمال الطبيعة باذخًا بسحرٍ أسطوري، أو هكذا تشعرُ من الدهشة التي توقعك في شراكها من النظرات الأولى؛ جمالٌ تظهر معه تضاريس هذه المحافظة كأنها “زمردة خضراء جرى فوق وجهها قضيب من البلور”.. فتداخلُ تفصيلات الصورة يُظهِر هذه المحافظة كأنها جنان سندسية مرصعة بجداول تظهر كأنها عقود لؤلؤ.

 تتشكل تضاريس محافظة إب (بكسر الهمزة وتشديد الباء)، والواقعة في الجزء الأوسط من الجمهورية اليمنية، من سلاسل جبلية محفورًا عليها مدرجات انطلقت منها مُروج خُضر؛ مُروج تصلُ قمم هذه المرتفعات بالسهول والأودية، التي هي هناك من أخصب أراضي اليمن، وتُنبت مختلف أنواع الخضرة والحبوب والفاكهة… ولذا سُمّيت باللواء الأخضر لوديانها النظيرة، وجبالها الخضيرة… وهو ما جعل منها عبر تاريخها الممتد إلى ما قبل الإسلام بلدة بجمالها مشهورة، وبفضلها مذكورة، ولطبيعتها الساحرة صارت قِبلة مقصودة.

حتى خلال الحرب تُعدّ هذه المحافظة من أكثر محافظات البلاد استقبالاً للنازحين الذين قصدوها من مختلف المحافظات إيمانًا منهم بخصوصية الإنسان، الذي يسكن هذه المحافظة، وجمال قيمه وسعة طبعه؛ ولهذا صارت اليوم، وبخاصة مدينة إب، تعجّ بأعدادٍ كبيرة من النازحين، الذين وجدوا فيها مسكنًا ومعشرًا جعلهم يُفضلون البقاء فيها، على ما في ذلك من ضغط على الخدمات،  حتى زوال الغمة على البلاد. يتمتع الإنسان في محافظة إب بجمالٍ هو جزء من جمال الطبيعة التي تُحيط به، وكأنّ المحافظة (مهرجان لِما تبقّى من جمال الإنسان)؛ ولهذا قصدناها بهذه الزيارة القصيرة؛ فتعالوا معي لنشهد مع مهرجان الإنسان، هناك، كرنفال الطبيعة في مدينة ومحافظة إب، التي تشعرُ معها أنّ اليمن ما زالت، وستبقى بخير.

 حكاية جمال

على قمة (جبل سُمارة)، الذي يُعدُّ من أشهر مرتفعات هذه المحافظة… استوقفتنا مشاهد الطبيعة الساحرة… فأرحنا السيارة القادمة بنا من صنعاء جانبًا في الطريق… لنترجل عنها… وعلى بُعد خطوات منها تسمّرنا من فرط دهشة التفصيلات: تفصيلات مشهد عبقري الصُنع، ساحر الجمال: جمالٌ تحولت معه تلك التضاريس بالغة الوعورة والقسوة إلى تقاطيع بالغة الرومانسية… فيتدفق المشهد فيوضًا من الجمال على امتداد بصرك.

 ضحكة الطبيعة

 أيّ جمال هذا هو إفراز امتزاج قسوة الطبيعة برقتها؟!، نُعايشُ دهشة هذا التساؤل، ونحن نرى تضاريس وعرة جدًّا عبارة عن مرتفعات جبلية تتخللها وديان عميقة، تجري في ممرات ضيقة، لها منحدرات حادة وطويلة.. لكن هذه الوعورة والقسوة صارت إلى خصيصة جمالية؛ فالموقع الجغرافي والارتفاع عن مستوى سطح البحر قد منح (إب) اعتدالاً في المناخ طوال العام، فضلاً عن أرض خصبة صالحة للزراعة عمادها الأمطار الموسمية التي تتحول إلى سيول (أنهار خريفية) من خلال مجموعة الأودية… وهي مقومات كان لها دور في اتباع نظام مكثف للزراعة، دفع الإنسان لاستثمار كلّ شيء هنا، فطوّع قسوة التضاريس بما يُلبّي حاجاته ويستغلّ خصوبة أرضه؛ فتجاوز السهول والوديان ممتدًا بمروجه الخضر إلى المرتفعات، فحولها إلى جزء من ضحكة الطبيعة، عبر مدرجات زراعية لم يتوقف عندها، بل تجاوزها إلى القمم فشيّد عليها الحُصون، وبنى فيها البيوت؛ فكانت القرى المعلقة التي يهزك مشهدها فتغرق في تساؤلاته:  لماذا هذا المكان؟، وكيف تسير حال المعيشة في مكان حدوده الهاوية؟!، كيف يصلُ ساكنو هذه البيوت إلى مَن هُم في الوديان، وكيف يصعدُ مَن في الوديان إليهم؟!.. إنها الطبيعة والصراعات فرضت على الإنسان اليمني هنا عبر التاريخ  تفضيل سكنى الأعالي.

مِن قمة جبل سُمارة يمكن  للزائر الإحاطة بتفصيلات مشهد الكرنفال.. كل شيء يرقص مع الريح… كلّ شيء يُغني مع الهواء… كلّ شيء يحتفي بالطبيعة على إيقاع جماله الخاص… كلّ شيء هنا يرسمُ في الاحتفال خصوصية فرحته… كلّ شيء، هنا، يدعوك لتسمع منه الحكاية: حكاية جمال اخترقت أسطورته قسوة المرتفعات لتكون واقعًا حيًّا في الوديان، حيث ثارت الحياة لتضوّع بعطرها تضاريس كلّ شيء، لترسم في وجه كلّ شيء ضحكتها… هذه الضحكة التي تبدأ خريطتها من قيعان السهول والوديان؛ هذه الوديان التي تنساب ممراتها منحدرة غربًا وشرقًا؛ فأما التي في شرق المحافظة فتصبّ في سهل تهامة، وأما التي في غربها فتصبّ في خليج عدن.. ومن فرط جمال هذه الوديان فقد تغنى بها العديد من الشعراء، وأنشدها غناءً عديد من أصوات الأغنية اليمنية، ويأتي في مقدمة هذه الأودية شُهرة (وادي الدُّورَ)، الذي ما يزال صوت الفنان الراحل أبوبكر سالم بلفقيه يُدندن بأغنية “وا مُغرد بوادي الدور” منذ سنين عديدة، ومثل ذلك (وادي بنا)؛ فصوت الفنان الراحل علي الآنسي من خلال أغنية “يا ريم وادي بنا” ما يزال، منذ أكثر من ثلاثين سنة، يحاولُ رسم صورة أقرب إلى جمال هذا الوادي. أما المرتفعات فتتقاسم الجزء الشمالي والجنوبي من خلال سلاسل جبلية تحمي القيعان، وتُشكل مع الوديان فردوسًا من فراديس الجِنان، التي  لا تتجلى  سوى في الحلم.

تجدُّد التفصيلات

وأنت ما تزال تقرأ تفصيلات المشهد من تلك القمة سيدهشك – أيضًا – ذلك التجدد والتنوع في جمال التفصيلات؛ وهو تجدد وتنوع تلحظه عيناك كلما ارتفعت الرؤية مع المرتفعات وهبطت في الوديان، وتنقلت في الروابي والسهول، وتملت في عادات وتقاليد وفنون الحياة لدى أهالي البلدات الطيبين؛ فما أجمل الإنسان هناك!

وأنتَ لا تزال غارقًا في التأمل المشبع بالتساؤلات ستجدُ السيارة قد تجاوزت بك مخاوف منحدرات جبل (سُماَرة) التي تتلوى فيها الطريق كأفعى تتأهب لاختطاف حياة من يخرج عن المسار… فالدهشة الناتجة عن سحر المناظر تحُوْل بين النفس ومعايشة تلك المخاوف؛ فتجعلها لا تغادر الأحاسيس الجميلة التي تولدها تلك المروج الخُضر، حين تغوص ببصرك في تفصيلاتها، إلى أنْ ترسو بعينيك على شواطئ مشهد تلك المدينة الكبيرة التي تتوسط تلك السلاسل الجبلية… تلك المدينة الواقعة على السفح الغربي لجبل (ريمان).. إنها (إب) عاصمة المحافظة.. تلك المدينة الرابضة على ربوة هضبة مرتفعة نسبيًّا…

يا له من موقع تُحف رقعته الطبيعة بكل رهبتها وبهجتها!

  عند وصولنا إلى مدينة إب وجدنا مساحتها العمرانية قد اتسعت في السنوات الأخيرة، بل ما زال البناء يتمدد بوحشية على حساب أراضٍ زراعيةٍ في الرّبا والسهول المحيطة؛ وهي الأراضي التي صار لها سوق كبيرة؛ بل إن هذا التوسع لم يرافقه تخطيط حضري ملائم يحفظ للمدينة خصوصيتها الجمالية والحضرية والسياحية للأسف!

  وأنا على شرفة الفندق أتأمل المدينة ومحيطها، وجدتها كأنها  المحتفى به في كرنفال الطبيعة التي تشهده المحافظة… فهذه المدينة تتوسط سلاسل مرتفعات كعروس على كرسي عرسها..

في هذه المدينة ترقص روحك على إيقاعات جوّها الطليق في سيمفونية يعزفها لحنها الشمس والمطر… ففي حرور الظهيرة ستفاجئك السماء برذاذ المطر دون خجل من الشمس، التي تضطر إلى الانسحاب بضوئها بهدوء، لتعود بهدوء، خلال دقائق، دون  خجل من المطر، الذي يضطر هو الآخر إلى الانسحاب بقطراته.. وهي إيقاعات لا تخلو منها منطقة من مناطق هذه المحافظة، وبخاصة في فصل الصيف..!

جمال وتأريخ

إنها متعة مختلفة كانت معها هذه المحافظة متنزهًا تنظّم له اليمن، قبل الحرب، مهرجانًا سياحيًّا سنويًّا كانت تحاول من خلاله كلّ عام التعريف بخصوصية منطقة من مناطق هذه المحافظة، وهي مناطق عانق سحر طبيعتها عمقها الحضاري… ففي هذه المحافظة القديمة مآثر حضارية لا حصر لها… بدءًا من مدينة إب القديمة التي تبرز معلمًا أثريًّا مهمًّا، وكغيرها من المدن الإسلامية المُهمّة، لها سور مبنيّ من الحجارة له خمس بوابات، تؤدّي مداخل البوّابات إلى ممرٍّ مرصوف بالحجارة، يتخلل الحارات السكنية والأزقة الضيقة والمتعرجة وغير المنبسطة والأسواق والمساجد وصولاً إلى وسط المدينة وإلى جامعها الكبير الذي يعتبر من أقدم المساجد باليمن بعد الجامع الكبير بصنعاء، ومسجد الجند.

واحتلت أراضي محافظة إبّ مكانة مرموقة في التاريخ اليمني خلال مراحله المختلفة فقد احتضنت أهم المراكز الاستيطانية من عواصم وحواضر الدولة اليمنية المركزية خلال فترات التاريخ القديم وعصر الدويلات الإسلامية، حيث ظهرت الدولة الحميرية بـ (قاع الحقل) المعروف بأرض يحصُب، وذلك ابتداءً من العام  115 قبل الميلاد، وكانت مدينة ظفار التاريخية عاصمتها لمدة تزيد عن   640 عامًا، ولمّا بدأت مدينة ظفار التاريخية تفقد أهميتها ظهرت مدينة المُذَيْخِرَة التي تبعد  نحو (35) كيلو متر تقريبًا من مدينة إب كعاصمة لملوك الكلاعيين – المناخيين – من أقيال حِمْير في الجاهلية والإسلام، حيث استمرت عاصمتهم حتى سقطت على يد “علي بن الفضل الخنفري” عام 292 هجرية، واتخذها عاصمة لدولته، والتي استمرت حتى تم القضاء على صاحبها عام 302 هجرية –  914 ميلادية، ومع ظهور عصر الدويلات الإسلامية ظهرت على بُعد سبعة كيلومترات من مدينة إب مدينة جِبلة عندما اتخذها “أحمد بن علي بن محمد الصليحي” عاصمة للدولة الصليحية، التي حكمت اليمن خلال الفترة (438 – 532 هجرية – 1047 – 1138 ميلادية)، وكان آخر ملوك الدولة الصليحية الملكة “السيدة أروى بنت أحمد” (477 – 532 هجرية) – (1085 – 1138 ميلادية).

 صفوة القول: إب… محافظة ومدينة كفاها امتيازًا أنها لليمن الحضاري قلبه النابض بالجمال؛ جمال الطبيعة وبهاء الإنسان… معادلة كان لا يمكن الوقوف على طرفيها وقراءة تفصيلاتها في هذه الزيارة القصيرة.

   
 
إعلان

تعليقات