Accessibility links

أحمد الأغبري وإبحاره في «اليمن من الداخل»


إعلان

عبدالباري طاهر*

إبحار الأديب المثقف واسع الاطلاع، والصحفي المحقق أحمد الأغبري يتجلى في كتابه «اليمن من الداخل: المكان شاهدًا».

والصحفي الأغبري ضمن مثقفين وأدباء وصحفيين قلائل جمعوا بين الإبداع الأدبي، والنقد الثقافي، وصحافة المعرفة، والمهنية والمهارة.

للصحفي والأديب المثقف أكثر من مبحث ودراسة وإصدار، لعل آخرها كتابه المهم «اليمن من الداخل» الذي يقع في 198 صفحة.

يبحر المبدع الأغبري عميقًا في اليمن، ويطوف ويسبح في أعماق المدن: إب، صنعاء، عدن، شبام حضرموت، ثلا، الطويلة، وغاص في أحياء القرية: بيت بوس، وحيْد الجزيل، كما درس وقرأ بحس رفيع ومعرفة تاريخية المدارس القديمة، والقصور التاريخية: المدرسة العامرية، قصر سيئون، دار الحجر، وتدير الجزر والمحميات، سقطرى، وعاشر إنسانها، وتعايش مع عتمة (الزمردة الخضراء)، كما يسميها الباحث والدارس.

يتعايش مع الشارع اليمني، وشارع المطاعم بصنعاء، ويتصاحب مع رواده ذوي الأمزجة والأهواء والتوجهات المختلفة، والمواهب الأدبية المتعددة.

يقرأ المكان كطريق إلى ذاكرة الإنسان، وأهم شاهد على الهوية والبعد الثقافي، ووسيلة التعبير عن الخصوصية.

في البداية يهدي كتابه إلى الحقيقة (اليمن): الفكرة، والهوية، المكانة، والإنسان، وإلى المستقبل (أبنائه): رؤى، مهند، رنيم، ومجد.

في مقدمته الضافية ينطلق من الجغرافيا المسكونة بالتاريخ، متسلحًا بأدب الرحلة. درس المكان كشاهد على هوية الإنسان اليمني الحضارية، معتذرًا من المدن التي لم يتمكن من زيارتها.

يتجاوز، كما يقول: “مأزق التباهي الأجوف، بما قد يعد خصوصية حضارية أو فرادة ثقافية”، بقدر ما يقدم شهادة حية عن بلد يتصدر المكان واجهة ثقافية، وهي الواجهة التي منحتنا قراءة واعية ومنصفة لحاضره، وقبل ذلك هويته، وهي قراءة في غاية الأهمية، لا سيما في ظل ما يشهده راهنه من تشظٍّ، وتنازع هوياتي، ليس يمنيًّا في فحواه.

يؤرخ للرحلات بالأعوام 2004 إلى 2014 باستثناء ما تم تدوينه لاحقًا، وتحديدًا عن شارع المطاعم بصنعاء، ومحمية عتمة.

متخذًا في رؤيته خمسة طرق: الأولى جهة المدينة، زار فيها تسع مدن، والطريق الثانية: القرية، ودرس في الثالثة: المدرسة، والقصر، أما الرابعة، فالجزر والمحميات، وكانت الخامسة الشارع – شارع المطاعم العدنية بصنعاء.

قبل الولوج إلى مدنية إب، يقرأ قصيدة «ناصية1»، لشاعر العرب الكبير عبدالله البردوني:

“أنا الغريب ومن أهل الديار فهل

هناك أو هاهنا باب يواسيني”

يعنون إب بضحكة الطبيعة. يقرأ في إب التي تعني آب – موسم المطر الأغزر يكون في آب، وإن كانت شهور الخريف في اليمن تبدأ من يوليو – تموز إلى 13 أكتوبر، حسب مواسم الزراعة في اليمن.

القارئ يقرأ في إب امتزاج قسوة الطبيعة برقتها. نعايش دهشة هذا التساؤل، ونحن نرى تضاريس وعرة جدًا عبارة عن مرتفعات جبلية تتخللها وديان عميقة تجري في ممرات ضيقة، لها منحدرات حادة وطويلة، لكن هذه الوعورة والقسوة صارت إلى خصوصية جمالية.

ويرى محقًا أن الموقع الجغرافي المرتفع عن مستوى سطح البحر قد منح إب اعتدالاً في المناخ طوال العام.

ويشير إلى مصبات جبالها ووديانها، حيث تصب في اتجاهين: اتجاه السهل التهامي، والآخر باتجاه خليج عدن، ويربطها بقاع الحقل – المكان الذي تأسست فيه الدولة الحميرية التوحيدية الأولى، والدولة الصليحية التوحيدية الثانية، وكانت المنطقة من أهم روافد الثورة اليمنية: سبتمبر، وأكتوبر، كقادة للثورة، وكجنود ومقاومين. [القارئ].

يدخل في صنعاء من ثقب باب اليمن. يقرأ في الاسم «صنعاء» جودة الصنعة، ويقرأه في الأبواب الأربعة الرئيسية للمدينة القديمة، وفي الحصانة، وعظمة سورها، وجودة أسواقها، وحرفها، وحصنها غُمدان، وقصورها.

ويقدم العلامة أبو محمد الحسن بن أحمد الهمداني وصفًا زاهيًا لصنعاء وأهلها، فيقول: “وهم أهل تمييز لعارض الأمور، وخدمة السلطان بأبهة وتملك وتنعم في المنازل، ولهم صنائع في الأطعمة لا يلحق بها أطعمة أي بلد، ولهم خط المصاحف الصنعاني المكسر، والتحسين الذي لا يلحق به، ولهم حقائق الشكل، ذكرهم بذلك الخليل، ولهم الشروط دون غيرهم، ولا يكون لفقيه شرط، إلا ولهم أبلغ منه، وأعذب لفظًا، وأوقع معنى، وأقرب اختصارًا، ويأتي على ذكر بطليموس عن أهل صنعاء [القارئ].

ويأتي الرحالة النابه على تناول باب اليمن كأهم بوابة لسوق المدينة، ولأهم شارعين إلى تعز، والحديدة.

يطوف بالمدينة – عين اليمن -، كما يسميها المؤرخ العرشي في «بلوغ المرام»، ويقرأ حواريها، ومساجدها، وشوارعها، وكل شيء جميل فيها، ومدى احتفاء منازلها بشروق الشمس، وارتباط ذلك بصوت فنانها أحمد السنيدار، فتشعر بروحك تتدفق كنهر ينساب في شوارعها حسب وصفه.

ويتناول سوق الملح مرددًا مقولة الشافعي: لا بد من صنعاء ولو طال السفر…

ويأتي على «قانون صنعاء» الذي صدر عام 1161 هـ، وهو ما يؤكد صدق ما ذهب إليه لسان اليمن أبو محمد الحسن بن أحمد الهمداني.

ويذكر انطباعات شعراء كبار كأدونيس عنها، ويتناول «الطيرمانة»، و«الساعة السليمانية»، ومقايل القات، وارتباط الساعة السليمانية بلحظة الانجذاب في المتعة حد نسيان العبادة، موردًا ما ذكره المفسر السيوطي عن الانشغال عن الصلاة باستعراض الخيول.

ويقرأ فن المعمار في صنعاء، وقصر غمدان، وقاع اليهود الذي تحول إلى قاع العلفي بعد ثورة الـ 26 من سبتمبر 1962.

عدن الضاحكة بحزن-  هكذا عنون الرحالة في كتابه عن عدن، فعدن – كما يراها – مشرقة باسمة دومًا، لها طلعة لا تُمل، ورؤية لا تحتوى. تعيش فيها متعة لا تروى، وذكريات لا تنسى، لما تكتنزه من فرائد المدن، وأسوار المواقع والأماكن.

يدون ميلاد اتحاد الأدباء والكتاب فيها عام 1970، ويدرس موقعها الطبيعي، وبيئتها المتصالحة مع المدن، ذاكرًا وصف ماري بروس كأول فنانة أوروبية تقيم معرضًا تشكيليًا في عدن في 1946.

ويصف المشاهد المختلفة للمدينة، والجبال المحيطة بها، ويتناول بالتفصيل الطريق الآتي إليها من صنعاء، واصفًا فيها تاريخ الطويلة، وقلعة صيرة، والمنارة القائمة في أحد شوارع المدينة، وتعود إلى عهد عمر بن عبدالعزيز، ويقرأ ملامح وخصائص أحياء المدينة الرابضة بين حضن البحر، وحراسة الجبل.

«اليمن من الداخل» غوص عميق يمتلك صاحبه رؤية ثاقبة، وبصيرة باصرة ترى الخفي في المدن والقرى، وحسًا رفيعًا لاكتشاف القيم الحضارية الغنية والجمالية في المعمار اليمني، وفي الإرث الرائع لحضارة إنسانية أدهشت الرحالة الأجانب والعرب. وقد اقتصرت تناولتي المتواضعة على مدينتين هما: صنعاء، وعدن في قراءة خاطفة، تاركًا للقارئ أن يستمتع بالكتاب – البانوراما الكاشفة للقيم التاريخية والثقافية والفنية الهندسية لليد اليمنية التي اشتهرت قديمًا ببناء المحافد، والمعابد، والمدرجات، والسدود. (وتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون). [الشعراء: 128-129].

* نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق.

   
 
إعلان

تعليقات