وجدي الأهدل*
بين وقت وآخر أصادف في شوارع القاهرة ومقاهيها ومطاعمها وجهًا من الوجوه المألوفة.. فأتساءل إن كنت أعرف صاحب هذا الوجه؟ وأين التقيته؟ لأن ملامحنا تغيّرت بهذا القدر أو ذاك.. والحرب التي طالت جدًا كأسوأ حرب في تاريخ اليمن، جعلت سنوات البُعد والفراق والنزوح خارج البيئة التي ألفنا فيها تلك الوجوه تتجاوز عقدًا من الزمان، وهي فترة كفيلة بأن يترك الزمن بصمته على الوجوه، فإذا هي على الأغلب قد شاخت قبل الأوان.
البعض استطعتُ التعرف عليهم، وبعضهم استطاعوا التعرف عليّ.. شماليون وجنوبيون، من سقطرى وحضرموت إلى عدن والحديدة.. فرقتنا سنوات من الغياب، ومسافات من آلاف الأميال، ولكن القاهرة التي أصبحت ملتقىً لليمانيين في الشتات جمعتنا في مصادفات رتب لها القدر على غير ميعاد.
الوجوه تكاد تنضح بهذه المعاني: أوقفوا الحرب، نريد العودة إلى بلادنا.
ولسان حالهم يقول: ليس لنا أيّ مطالب من أيّ جهة، ما نريده فقط هو توفير السلم والأمان والاستقرار، ونحن سنتدبر معيشتنا.
لكن ثمة وجوه لا تريد للحرب في اليمن أن تنتهي.. وهي استثناءات تؤكد القاعدة ولا تنفيها، ولهذه الوجوه حججها التي تسوقها لتبرير موقفها من الحرب اليمنية، وهي حجج يجب الإنصات إليها لنفهم ما سبب نفورها من دخول البلد في حالٍ من السلام الشامل والدائم..
صديق عزيز من سقطرى تعرفت عليه في شارع المطاعم الشهير بصنعاء قبل سنوات بعيدة، وبالصدفة التقيته هنا، أوضح لي أن جزيرة سقطرى حصلت أخيرًا على خدمات صحية ممتازة، ومشاريع بنية تحتية، ومنح تعليمية لأبناء سقطرى لدراسة تخصصات كانوا محرومين منها مثل دراسة الطب البشري والهندسة والعلوم، وامتيازات عديدة في سهولة السفر والتنقل، أضف إلى ذلك الوفرة المادية ورواتب جيدة.. لقد ذكّرني أن سقطرى عندما كانت تحت حكم الحزب الاشتراكي في اليمن الجنوبي ما بين 1968- 1989 لم يصلها شيء من التنمية والمشاريع الخدمية والمنح الدراسية، وبعد قيام الوحدة عام 1990 استمر الحال على ما هو عليه مع تحسن طفيف لا يكاد يذكر، فالسقطري أو السقطرية إذا احتاج إلى عملية جراحية أو عناية طبية متوسطة كان عليه السفر إلى البر الرئيسي، وأما التخصصات الجامعية التي تشتد الحاجة إليها في الجزيرة مثل الأطباء، فلم تكن هناك منح خاصة في جامعات صنعاء أو عدن لتأهيل أطباء وطبيبات من أبناء الجزيرة لخدمة أهاليهم.. إن صديقي هذا يقدم حججًا مقنعة، ولكنه يستدرك إنه يأمل إذا انتهت الحرب ألا تخسر سقطرى المكاسب الصحية والتعليمية والتنموية التي حصلت عليها، وأن تصل إليها خيرات الدولة.. ومن الواضح أنه محق في كلامه.. فأبناء سقطرى بشر وليسوا ملائكة، فالشعارات لن توفر لهم المأوى ولا لقمة الخبز ولا الدواء، ومن الإنصاف الاعتراف بأنه من حقهم أن يطمحوا إلى حياة كريمة.
في شمال اليمن هناك أصوات لمن ضاق ذرعًا بمركزية الحكم في صنعاء، وفي الجنوب هناك أصوات لمن يريد الإفلات من مركزية الحكم في عدن.. هذه المناطق التي عانت من مركزية الحكم سواءً كان المركز صنعاء أو عدن، لديها حججها التي تسوقها لتبيان ما تعرضت له من تهميش واستغلال لمواردها الطبيعية دون أن يستفيد أصحاب الأرض منها إلا الفتات.. ونجد هذا واضحًا في المحافظات الغنية بالنفط مثل مأرب وحضرموت، والتي ذهبت خيراتها إلى حكومات في المركز لم تقدم لهم بالمقابل التنمية والخدمات بالجودة التي يتوقعونها.
ما الذي نستنتجه من كل هذا ؟ الخلاصة أن الدولة اليمنية في الماضي أهملت الأطراف والمناطق النائية، ولم تكن هناك عدالة في توزيع موارد الدولة.
وفي حال تمكنت اليمن من التغلب على حالة الانقسام والتشظي في رأس السلطة، وتم انتخاب رئيس واحد لليمن كلها، فإنه يجب أن تمتلك القيادة السياسية رؤية جديدة، تضع في اعتبارها التوزيع العادل لموارد الدولة، وتوطين السلطة في المحافظات، بحيث يشغل الدوائر الحكومية موظفون من أصحاب الأرض، من منصب المحافظ فما دونه، فلا يشعر المواطنون في هذه المحافظات بأن المركز هو الذي يرسل إليهم غرباء يحكمونهم ويتحكمون في سائر شؤون حياتهم.
أما بشأن تجار الحروب، أولئك الذين يطالبون علنًا بالسلام، وفي السر يُسَعِّرون النزاع، فهؤلاء هم بالضبط الخاسر الحقيقي والوحيد من أيّ سلام شامل في اليمن.
إن أشواق اليمانيين إلى بلادهم تلحظها في كل حديث، وحين نتطرق إلى أيامهم في صنعاء أو تعز أو عدن وسواها من مدن ومناطق اليمن تلمع عيونهم، وكأنهم يتحدثون عن كنز مفقود.. أحد أصدقائي سألني عن شارع الجزائر في صنعاء وهل تغيّرت ملامحه؟ ذكر لي أنه يشعر بالحنين إلى بيته في ذلك الشارع، وأنه في ذلك البيت عاش أجمل أيام حياته.
صديق آخر قال لي إنه عندما كان في اليمن تعرض للاعتقال في عدن، فخرج منها إلى تعز وهناك اعتقلوه أيضا، فلما أُفرج عنه رحل إلى صنعاء وكالعادة اعتقلوه.. وكأن الجميع اتفقوا على اعتقال أي شخص لا يروق لهم حتى يعجزوا عن إدانته فيطلقونه على مضض! لذلك غادر البلاد مضطرًا وهو العاشق الدنف بها، وحُرم من رؤية أطفاله سبع سنوات.. وها هي السنوات تمضي والحرب اللعينة لا تشيخ.
كثيرون حرموا من لقاء أمهاتهم وآبائهم، يشتاقون لساعة مع زوجاتهم وأطفالهم، يحنون إلى بيوتهم وقراهم وحاراتهم، يرجون أن يتنفسوا هواء بلادهم، ومنهم من يدركه الأجل ولم تتحقق أمنيته في العودة إلى بلاده العزيزة على قلبه.
شتان ما بين من يرجو السلام لبلاده، ومن يستبشر بديمومة الحرب ليتربح منها.. هذا يريدها متمتعة بالصحة، وذاك يريدها أن تظل مريضة.. هذا يدعو لها بالسلامة، وذاك يدعو عليها بالهلاك!
لا نعرف متى نسمع نبأ اتفاق جميع الأطراف السياسية على رئيس واحد لليمن، وحكومة واحدة، وتكوين جيش وطني واحد، وحلّ الميليشيات وتخليها عن حمل السلاح.. ما نأمله أن يكون هذا اليوم قريبًا.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات