وجدي الأهدل*
بعد أيام ستصعد الروائية الكورية الجنوبية البالغة من العمر 54 عامًا سلم الطائرة متجهة إلى العاصمة السويدية ستوكهولم لاستلام جائزة نوبل للأدب (2024).
السؤال الاعتيادي الذي يُطرح دائمًا مع إعلان اسم كل فائز جديد بجائزة نوبل للأدب؛ هل هو أو هي مستحق لتكريمه بهذه الجائزة الرفيعة؟
عرف القراء العرب (هان كانغ) عن طريق روايتها النباتية، التي تعد أبرز أعمالها الروائية، ترجمها مباشرة عن الكورية محمود عبدالغفار، وصدرت طبعتها الأولى عام 2018 عن دار التنوير اللبنانية.
أحد أسباب اهتمام العرب بقراءة “النباتية” يعود إلى فوزها بجائزة مان بوكر الدولية عام 2016، وهي الجائزة البريطانية العريقة التي تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية العالمية بعد جائزة نوبل للأدب.
تتحدث رواية “النباتية” عن شابة اسمها (يونغ هيه) تعيش حياة زوجية عادية، لكنها ترى كوابيس مزعجة فتقرر الامتناع عن أكل اللحوم على أمل أن تختفي تلك الكوابيس الراعبة، ثم تتدهور حالتها النفسية بسبب عدم تفهم عائلتها وزوجها لقرارها، وينتهي بها الحال إلى الجنون، والرغبة في الموت عن طريق الامتناع التام عن الأكل.
تبدو قصة الرواية عادية إلى حد ما، فكثيرًا ما اجتذب الجنون أقلام الأدباء للخوض في مسبباته، وهو ميدان خصب لا ينضب لشتى المعالجات التي يمكن أن تتعدد إلى ما لا نهاية.
لكن ما يميز (هان كانغ) عن سواها من الروائيين الذين تناولوا هذا الموضوع، هو تفوقها في رسم الشخصيات والغوص عميقًا في دوافعها ومشاعرها النفسية الخبيئة، والبراعة في خلق وجهات نظر الشخصيات لتسليط الضوء من زوايا متعددة على بطلة الرواية “يونغ هيه” التي خالفت المجتمع بقرارها أن تصير نباتية.
بناء الرواية يقوم على تقنية تعدد ضمائر السرد، ويتوزع السرد على ثلاث شخصيات رئيسية، هي الزوج وزوج الشقيقة الكبرى ليونغ هيه وأخيرًا شقيقتها الكبرى، ويبدأ القسم الأول من وجهة نظر الزوج الذي يستخدم ضمير المتكلم، ثم القسم الثاني الموسوم بـ”البقعة المنغولية” الذي يمثل وجهة نظر زوج الشقيقة الكبرى ومن ثم ينتقل السرد إلى ضمير الغائب، ثم القسم الثالث الموسوم بـ”لهيب الأشجار” الذي يأتي بضمير الغائب أيضًا ويمثل وجهة نظر الشقيقة الكبرى، وهناك صوت رابع يتداخل مع وجهات نظر الشخصيات الرئيسية الثلاث، هو صوت بطلة الرواية يونغ هيه التي قررت أن تصير نباتية، وهو يظهر كصوت ثانوي، خصوصًا عندما تروي كوابيسها.. لذلك نحن لا نعرف الكثير عن حقيقة مشاعرها ولا نتعرف عليها من الداخل، ولكن نتعرف عليها من خلال شهادات الأشخاص المقربين منها.
وبسبب حرمان النباتية يونغ هيه من الدفاع عن نفسها، وهو تكنيك فني صائب، فإن الحكم عليها متروك للمحيطين بها، وهم كما أسلفنا الزوج والشقيقة الكبرى وزوج الشقيقة الكبرى.
أولئك الذين أدلوا بشهاداتهم عنها قد بينوا حججهم التي بنوا عليها أحكامهم، ولكن يظل الحكم النهائي للقارئ، القارئ الذي تطلب منه المؤلفة أن يُحكِّم ضميره، وبالتالي يصدر حكمه إن كانت يونغ هيه محقة في قرارها أن تصير نباتية أم لا.
القسم الأول من الرواية المروي بلسان الزوج الذي عانى أشد المعاناة من قرار زوجته ينجح في جعلنا نتعاطف معه، وندرك أنه مظلوم ومتضرر، وأنه محق في التخلي عن زوجته يونغ هيه وتطليقها.
لاشك أن المؤلفة هان كانغ منحازة بصورة غير مباشرة إلى صف بطلتها “يونغ هيه”، ولكن حينما أعطت للزوج الفرصة ليشرح موقفه ويبرر تصرفه، فإنها قد بذلت كل جهدها ليبدو طرحه مقنعًا للقارئ، وأعتقد أن طائفة من القراء حتى بعد إتمامهم قراءة الرواية سيجدون أنفسهم منحازين لموقف الزوج.
هذه القدرة اللافتة على منح الصوت المعارض لرؤية المؤلف الأخلاقية هي إضافة فنية تُحسب لصالح هان كانغ، وتشير إلى مهاراتها السردية العالية، ما جعلها أهلًا لأرفع الجوائز الأدبية في العالم.
الروائي العادي عندما يخلق البطل المعارض الذي يدينه الروائي في ضميره الأخلاقي، فإنه من المستبعد بصورة قاطعة أن يمنحه الفرصة الكاملة للدفاع عن وجهة نظره وبسطها كما يراها هو، مجازفًا -أيّ المؤلف- بأن يبدو هذا البطل السلبي مقنعًا للقارئ أكثر من بطله الإيجابي الذي يشكل امتدادًا لضميره الأخلاقي ووعيه الأيديولوجي.
((ما خطبكِ؟ أبسبب حلم سخيف تتخلصين من اللحوم كلها؟ بحق السماء، هل تدرين كم ثمنها؟”.
نهضتُ وفتحتُ الثلاجة. كانت فارغة بالفعل؛ لا شيء إلا مسحوق الحبوب، ومسحوق الفلفل الحار، وفلفل مجمد، وكيس ثوم مفروم!
“اقلي بعض البيض، أنا متعب اليوم، ولم أتناول غداءً مشبعًا”.
“لقد رميت البيض”.
“ماذا؟”.
“والحليب أيضًا”.
“لا أصدق هذا! أتطلبين مني أن أتوقف عن تناول اللحوم؟”.
“لم أتحمل بقاء تلك الأشياء في الثلاجة، لن يكون ذلك مقبولًا”.
كيف تسنى لها أن تكون أنانية إلى هذا الحد بحق السماء؟)) ص17.
وكما نلاحظ من المقطع أعلاه فإن حياة الزوج تحولت إلى جحيم يومي، وأكثر من ذلك سببت له زوجته النباتية مواقف محرجة بسلوكها الغريب غير المتزن.
وهكذا ينشأ موقف يدين سلوك النباتية يونغ هيه ونراه شيئًا لا يحتمل، ونكاد نتفق مع الزوج أن قضيته منصفة.
عندما يأتي الدور على زوج الشقيقة الكبرى الذي هو فنان، ينشأ موقف جديد مختلف كليًا عن السابق ومناقض له، ويبدو الزوج الذي تعاطفنا معه في البداية مجرد نذل قرر التخلص من زوجته في وقت عصيب تمر به، لأن مستقبله الوظيفي هو الأهم في حياته، ولا يريد لأيّ شيء أن يعوقه عن الترقي في مهنته.
زاوية الرؤية الجديدة هذه التي تبدو أيضًا مقنعة، هي رؤية الفنان-المبدع للحياة والإنسان والوجود بصفة عامة.
إن رؤية الزوج تمثل الرؤية البراغماتية للحياة، التي ترى أن الطبيعة البشرية تبحث عن المنفعة، فإذا انتفت هذه المنفعة من الشيء فإن التخلص من هذا الشيء أمر بديهي.
لكن (الإنسان) ليس شيئًا، ليس موضوعًا للمنفعة فقط، فهو قيّم بذاته، سواءً حصلنا على المنفعة منه أو لا.. وهذه هي الرؤية الإنسانية للحياة التي يجسدها الفنان-زوج الشقيقة الكبرى.
“النباتية” رواية عن الجنون والجنس، وتقريبًا تقول هذه الرواية إن الجنس هو طريق الشفاء من الجنون.. هي لا تقول هذا بشكل مباشر، ولكن القارئ اللبيب تصله الرسالة.
أمر أخير يرد على ذهني يتعلق بموقف القارئ العربي من الجنس في الأدب؛ فقد لاحظت أن القراء العرب يتغاضون عن الجنس في الروايات الأجنبية، بل يكيلون لها الثناء العظيم، ولكن إذا وجدوا هذا الجنس في الروايات العربية اتخذوا موقفًا عدائيًا واتهموا المؤلف بأنه يبحث عن الإثارة والشهرة ولفت الانتباه ونحو ذلك من الاتهامات المتهافتة، وهذا يدل على العقل العربي المتناقض مع نفسه، الذي يستمتع بثمار الحرية المستوردة التي حصل عليها الآخر المختلف عنه، ولكنه يُحرِّمها – أيّ الحرية- على بني قومه ويرى ثمارها سامة.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات