وجدي الأهدل*
الأدب الروائي ما يزال يثير اهتمامًا واسعًا لدى كبار المفكرين في الغرب والشرق، الجميع يبذلون جهودًا حثيثة للتوصل إلى سر افتتان ملايين لا تعد ولا تحصى من البشر بهذا الفن السردي.
في هذا الصدد صدر كتاب يُظهر علاقة تثير الريبة بين نجاح الرواية لدى كل الشعوب والثقافات، وبين اكتساح الرأسمالية لمختلف الدول والأنظمة السياسية في العالم، وعنوان الكتاب: “الرأسمالية ونظرية الرواية-Theory of the Novel” للناقد والمفكر الإيطالي (غويدو ماتزوني).
تربط تأملات (غويدو ماتزوني) بين الرأسمالية والرواية ربطًا محكمًا، وهو يُظهر نقاط تشابه كثيرة بينهما، ويرى أنهما الشيء نفسه، ولكن في حقلين مختلفين، هذه في الاقتصاد، وتلك في الأدب!
قد يستاء البعض من تأملات غويدو ماتزوني عن الفن الروائي، ولكن تأملاته تستحق التدبر مليًا وأخذها على محمل الجد.
ولعل أطروحات غويدو ماتزوني تفسر لنا بدقة ودون مواربة لماذا لا تنمو الكتابة الروائية في البلدان ذات التوجه الاشتراكي، وكيف تذبل بمرور الأعوام.. وهو ما حدث حرفيًا للأدب الروائي الروسي في الحقبة السوفييتية، حيث أخذ مستواه في التدهور إلى أن هجره القراء.
سبقه عديد من المفكرين في الإشارة إلى أن الرواية هي بنت الطبقة البرجوازية، وأن المجتمع الذي يخلو من وجود طبقة برجوازية فإنه سيخلو تلقائيًا من الروايات، فهناك تلازم ملحوظ بين الطبقة البرجوازية القوية ووفرة الإنتاج الروائي.
يطرح الناقد غويدو ماتزوني مقولة فائقة الأهمية عن الفن الروائي: “الرواية تسرد أيّ شيء بأية طريقة كانت”.
وهذه المقولة بجانب كونها صحيحة، فإنها بالغة الخطورة، بل إن خطورتها تفوق كل توقعاتنا.. والأمر الأول الذي يلفت انتباهنا مباشرة في هذه الجملة المتفجرة، أو التعريف الفاقع، هو التشابه الذي تقشعر له أبداننا ما بين الحرية المطلقة التي تنادي بها الرأسمالية، وما بين الحرية المطلقة التي توفرها الرواية كجنس أدبي للكاتب!
إذا استخدمنا مقولة غويدو ماتزوني عن الرواية لتعريف الرأسمالية، فسوف نخرج بتطابق يثير القلق: “الرأسمالية هي أن تبيع أيّ شيء بأية طريقة كانت”.
هذا التطابق المثير للجدل ما بين الرواية والرأسمالية، يجعلنا نقرع جرس الخطر، وأن نفكر مليًا في دور (الرواية) والغاية منها، وألا نتحول دون وعي منا -نحن الروائيون- إلى رأسماليين جشعين يُلغون القيم الأخلاقية من حساباتهم، ويفكرون بطريقة تجارية صرف في تعليب مشاعر الناس وكلماتهم، ومن ثم تحويلها إلى سلعة تباع في الأسواق.
القبول بفكرة أن (الرواية) سلعة، يعني التفكير مسبقًا في الأسواق، وأن نأخذ في الاعتبار رغبات وأذواق المستهلكين الخ المصائب التي تنتج عن تسليع الرواية.
يتحول الروائي دون أن يدرك ذلك غالبًا، إلى خياط يقوم بتفصيل رواياته على مقاس زبائنه، وكلما كانت المقاييس مضبوطة، كلما كان نجاحها مضمونًا أكثر!
هذا الاقتران -الذي لا أعرف ماهي نتائجه البعيدة المدى- بين الرواية والرأسمالية يشكل خطرًا قاتلًا على روح الأدب، ويهدد بجعل الكتابة الروائية خاوية من المعنى، وخاضعة لأذواق سوقية، والأمر الأكثر خفاءً والأشد ضررًا هو أن الرواية ستفقد (أدبيتها) ويتلاشى سحرها، وتمسي مجرد هياكل براقة مزخرفة تضج بالحياة والحيوية والذكاء من الخارج، ولكنها ميتة من الداخل.
وفي ذات السياق قرأتُ مقالًا للباحث (جوش آبي-Josh Abbey) ترجمته للعربية دارين حوماني ونشر في ضفة ثالثة، عنوانه ((لماذا أصبحت عبارة “تعفن الدماغ” هي كلمة عام 2024؟))، وفحواه أن وسائل التواصل الاجتماعي تسبب تعفنًا للدماغ، والشاهد أن جوش آبي يتتبع الأصل التاريخي للعبارة ومتى استخدمت لأول مرة، والمفاجأة أن عبارة “تعفن الدماغ” استخدمت في القرن التاسع عشر، وكان المتهم الأول آنذاك هو الرواية!
يهاجم الشاعر الإنجليزي صامويل تايلور كولريدج الإصدارات الروائية التافهة في زمنه: “تؤدي بمرور الوقت إلى التدمير الكامل لقدرات العقل”. ورؤيته تتلخص في أن الرواية ضحلة وسهلة وعباراتها واضحة وبسيطة، وهذا نقيض للفن الرفيع الذي يتطلب مجهودًا ذهنيًا للتمتع بمباهجه.
ويورد المقال سلسلة آراء لنقاد وأدباء مرموقين تنبه من خطر قراءة الروايات التي تُكتب لتمضية الوقت وتسلية القراء، ويبدو الأمر وكأن عبارة “تعفن الدماغ” قد نشأت فعلًا مع ظاهرة المقروئية العالية للروايات في جميع الأوساط والطبقات الاجتماعية.
هل فعلًا قراءة الروايات إلى درجة الإدمان يؤدي إلى “تعفن الدماغ”؟ هذا السؤال تحتاج إجابته إلى تحليل وأبحاث علمية رصينة.
هل لاحظ الروائيون أنفسهم هذه المعضلة؟ الجواب المثير للدهشة هو نعم!
هل لدينا شواهد على ذلك؟ لدينا الكثير منها، ونبدأ بمؤسس فن الرواية الحديثة الإسباني ميغيل دي سيرفانتس، مؤلف رواية “دون كيخوته” التي ما تزال تعد حتى اليوم أفضل رواية كتبت باللغة الإسبانية، وهي تتحدث عن النبيل ألونسو كيخانو المولع بقراءة روايات الفروسية التي أفسدت عقله، فإذا به يجوب البلاد طولًا وعرضًا بحثًا عن المغامرات، واتخذ لقب دون كيخوتي دي لا مانتشا، وانتهى به الأمر مجنونًا. وإنها لأعجوبة الأعاجيب أن يكون موضوع أول رواية فنية حديثة في التاريخ البشري هو “تعفن الدماغ” بسبب قراءة الروايات الرخيصة!
لقد لاحظ العبقري سيرفانتس الأذى العقلي الذي تتسبب به الروايات الرديئة، فكتب رائعته الروائية الخالدة.
والشاهد الثاني يأتي من أفضل روائي في القرن التاسع عشر، وهو الفرنسي جوستاف فلوبير، مؤلف رواية “مدام بوفاري”، حيث تفسد قراءة الروايات العاطفية عقل “إيما” وتتسبب في انجرارها وراء أهواءها التي تنتهي بها إلى الانتحار.. وهنا أيضًا نلاحظ أن العبقري فلوبير قد انتبه إلى أن هناك نوعًا من الروايات يسبب “تعفنًا للدماغ”، وهو بالتأكيد لم يكن قد سمع بهذا المصطلح، ولكن خبرته العميقة بالروح البشرية هي التي أسعفته للتعبير عن مشكلة يعاني منها معاصروه، وإنْ لم يكن المسمى الدقيق معلومًا بالنسبة له.
الشاهد الثالث يأتي من أعظم أديب كتب القصة القصيرة، وهو الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، الذي لاحظ أن ثمة خطبًا ما في فن الرواية، لذلك تجنب بحصافة إصدار أيّ عمل روائي.. وقد وجه له سؤال “لماذا لا تكتب رواية؟” في العديد من الحوارات الصحفية التي أُجريت معه، وفي كل مرة كان يبتكر جوابًا ظريفًا، ولكن الجواب الذي أراه صادقًا ويعبر عن توجهاته الفنية والجمالية هو قوله إن الرواية لا شكل لها، وهذه ملحوظة دقيقة للغاية، وهو يعرف أكثر من أيّ شخص آخر بحساسيته الفنية العالية أن ظهور فن أدبي دون شروط فنية ملزمة سيؤدي إلى نتائج عكسية.. والجواب يتفق مع أطروحة غويدو ماتزوني التي تُشهّرُ بالقدرة الشنيعة للرواية على قول أيّ شيء بأيّ طريقة كانت.
وفي إحدى المحاورات أجاب بورخيس عن سبب عزوفه عن كتابة رواية بقوله “عوالم مكتظة للغاية”! وكأنه يُلمح إلى نوع من الانحطاط الفني الذي ينفر منه الذوق الرفيع.. فهل استشعر بورخيس أن قراءة الروايات المكتظة بالعوالم يؤدي إلى “تعفن الدماغ”؟ وحين سُئل عن رأيه في رواية “مئة عام من العزلة” أشهر روايات القرن العشرين، أجاب بقوله: “خمسين عامًا من العزلة كانت تكفي”! وهذا الرأي سيبدو ساخرًا ومتعجرفًا لمن لا يعرف التكوين الثقافي والابداعي لبورخيس، والحقيقة أن جوابه يتسق مع رؤيته الجمالية، ومع ممارساته الكتابية.
لا أستطيع أن أعطي القارئ أيّ أحكام جاهزة، وعليه أن يحكم بنفسه من خلال تجربته في قراءة الروايات. وأما كُتاب الروايات، فإن الملاحظات السالفة الذكر المتعلقة بالفن الذي يزاولونه جديرة بأن يتأملوا فيها ويتفكروا أين هم الآن.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات