Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

لقد كتب المفكرون العرب أطنانًا من الورق لحث الشعوب العربية على اكتساب عادة قراءة الكتب، ولكن الأمر لا ينجح مع الأسف، فالعربي في غالب أحواله يُفضل الثرثرة على القراءة، وتدليل معدته على صقل ذكائه، وتعديل مزاجه بالمكيّفات على اكتساب المتعة الروحية من الآداب والفنون والمعرفة العلمية.

ولعل الحل لهذه اللعنة التي أصابت الشخصية العربية، هو وقف أسلوب التعليم العقيم المطبق في الدول العربية القائم على الامتحانات، واستبداله بنظام تعليمي مختلف يُركز على قراءة الكتب، قراءة حرة موسوعية، وأن يُطلب من الطلاب فهم الكتب لا حفظها، وتحليلها وإبداء الرأي فيها، وأن يمتلكوا القدرة والمهارة على مناقشتها جماعيًا.

لابد من كسر الحلقة التعليمية المفرغة، حيث في النظام التعليمي السائد يحفظ الطلاب قدرًا محدودًا من المعلومات، وعلى قلتها فإنهم ينسونها بعد خروجهم من قاعة الامتحانات مباشرة.

يُركز النظام التعليمي العربي التقليدي على التكوين المعرفي القصير الأمد للطلاب، الذي ينتهي مفعوله بانتهاء موسم الامتحانات، بينما يفترض أن يكون التكوين المعرفي للطلاب تراكميًا وموسوعيًا طويل الأمد غير محدود بفترة الامتحانات أو بقاعة الدروس.

ينبغي أن تتغير نوعية الحياة التعليمية العربية، فيندمج الطلاب العرب في جو تعليمي حقيقي يقوم على القراءة الإلزامية والتطوعية، وأن يسعوا إلى تطوير معارفهم بحسب اهتماماتهم بإرشاد من مدرسيهم، بحيث تترسخ عادة القراءة في نفوسهم منذ سن مبكرة.

مخرجات النظام التعليمي المعمول به حاليًا خلقت جيوشًا من المتعلمين غير النافعين، بل إن هؤلاء المتعلمين صاروا سببًا من أسباب فشل تحديث المجتمعات العربية.. لأن هذا الذي تعلم دون أن يفهم يغدو حجر عثرة أمام أيّ محاولة لتطوير الدولة قانونيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وبات عدوًا أحمقاً لـ(الحداثة) التي جعلت حياته أفضل من جميع النواحي.

إن المطلوب هو تثقيف الطلاب لا تعليمهم فقط، وتنوير عقولهم بالنور الآتي من بين صفحات الكتب، وهذا يعني إزاحة الامتحانات من طريقهم، لأنها طريقة سهلة للنجاح، وفتح المكتبات العامة أمامهم للقراءة والبحث ورفع معدلات ذكائهم.

ماذا نستفيد من خريج جامعة لا يستطيع كتابة بحث أو مقالة؟؟ بل ماذا نستفيد من أكاديمي توقف نموه المعرفي بعد حصوله على شهادة الدكتوراه؟!

إن طالب العلم لا يكف أبدًا عن طلب العلم حتى بعد تخرجه من مؤسسات التعليم، فهو يدرك أنه بحاجة إلى أن يتعلم في كل يوم، وإلا فإن يومه ذاك قد ذهب سدى.

الطالب عندنا يكف عن طلب العلم وهو ما يزال في الفصول الدراسية.. يدرك ما هو مطلوب منه فيتحول إلى طالب شهادة!

ينبغي إزاحة فكرة (الشهادة) من أذهان الطلاب والمدرسين أيضًا، والتركيز على التكوين الموسوعي للطلاب، وأن الطالب يدرس لأجل نفسه وليس لأجل الامتحانات.

يحتاج العرب إلى نظام تعليمي جديد، ينهض على القراءة الحرة خارج المنهج، بحسب اهتمامات كل فرد على حدة، لعل وعسى يتحرر العقل العربي من قيوده وينضج، فيصير عقلًا نافعًا للإنسانية ومساهمًا أصيلًا في صنع حضارتها.

لا أعرف لماذا يصر خبراء التعليم على قولبة الطلاب في اتجاهات محددة مسبقًا، وتقزيم عقول الطلاب لتتكيف مع وضعية البقاء داخل الصندوق.. بل المصيبة أن الطالب الذي يتجرأ على إرواء معارفه خارج الصندوق قد يتعرض للعقاب وربما الرسوب وحرمانه من التقدم الدراسي، إلا إذا عاد إلى صوابه واستكان داخل تلك الزنزانة المعرفية المقدرة له!

مثلًا يمكن في فصل واحد من فصول الثانوية أن يظهر طالب لديه استعدادات عقلية عالية في البرمجة، وآخر مهارات ملحوظة في الابتكارات التقنية، وثالث قدرة أعلى من زملائه في الرياضيات، وتوجد طبعًا تنويعات لا نهائية بتنوع القدرات البشرية، والأسلوب التعليمي الصحيح هو تشجيع كل ذي مهارة وموهبة على التعمق أكثر في المجال الذي شغف به حبًا، لا إغراقه في دورس مضجرة سوف ينساها بمجرد خروجه من قاعة الامتحان.

يجب قلع آلية (الامتحانات) من رؤوس قادة الحكومات ووزراء التعليم والمعلمين، هذه الآلية الميكانيكية تصنع أجيالًا من المتعلمين المتواضعين في قدراتهم المعرفية والثقافية.

والحل الصحيح هو تنمية المهارات الفطرية التي يتحلى بها الطلاب، والدفع بهذه المهارات إلى الأمام، ومساعدة الطلاب في التمسك بطموحاتهم وآمالهم لا التخلي عنها.

في الحياة خارج أسوار المدرسة قد يجد الطالب المبتكر والموهوب مساعدة من ذويه، وفي أحايين كثيرة قد لا يجدها، فليست كل العائلات تمتلك البصيرة لإرشاد الولد أو البنت إلى مسار صالح لتنمية مواهبه وتدعيم تكوينه المعرفي، وهنا من المفترض أن يجد هذا الطالب المتميز وأمثاله داخل قاعات الدرس الإرشاد العلمي الصحيح، والتشجيع المدروس لالتهام الكتب التي تزيد من معرفته بالموضوع الذي تشتغل به نفسه.

العملية التعليمية يجب أن تشجع الطالب على المغامرة المعرفية، وهذا الطبع المغامر هو موجود سلفًا لدى كل طالب في سنوات الفتوة والشباب، وما على الإدارة التعليمية الحكيمة سوى تزكية هذا الجانب في شخصية الطالب، وتركه يتحرك بحرية مع توجيه بسيط لينهل من المعارف التي تعزز المغامرة المعرفية التي يصبو إليها.

إن نظاما تعليميًا مفتوحًا كهذا، يشجع الطلاب على طلب المغامرة المعرفية لا نيل الشهادة المدرسية أو الجامعية، سوف يحدث تغييرًا مذهلًا في المجتمع، وسوف يظهر عدد هائل ومتنوع من المبدعين والمبتكرين والمفكرين والعباقرة والأدباء والفنانين وفي سائر مجالات العلم والمعرفة.

نحن الآن بطرقنا التربوية التي عفا عليها الزمن نقتل بذور العبقريات العلمية والأدبية في مهدها، ونخسر أفضل ما فيها، ونحصل في النهاية على كمّ من المتعلمين المتشابهين محدودي النفع والقيمة.

ماذا نستفيد من مليون خريج جامعي ليس بينهم مخترع واحد؟! من المستحيل أنه لا يوجد بين مليون خريج جامعي طائفة لها وزنها من الموهوبين في شتى المجالات، ولكن من المحتمل أن النظام التعليمي في جامعاتنا هو الذي حدّ من مغامراتهم العلمية والفكرية والأدبية والفنية، وقصّ أجنحتهم قبل أن تذوق حلاوة التحليق في الأعالي.

لا أصدق خرافة أن العقل الأوروبي أو الأمريكي أو الياباني أكفأ من العقل العربي، ولكنني أؤمن أن العقل العربي إذا وجد البيئة التعليمية السليمة فإنه سيقف على قدم المساواة مع تلك العقول التي ذكرناها، وقد يُدهش الجميع بما لديه من قدرات عقلية متقدمة.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات