Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

تقصى الأديب والصحافي المصري عبدالعال الحمامصي استطلاع رأي نجيب محفوظ في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بمصر ومحيطها العربي، في كتابه “هكذا تكلم نجيب محفوظ”(الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2005) مُجرجرًا عميد الرواية العربية للحديث عن قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية شديدة التباين.

ومعظم هذه الحوارات والتساؤلات أجراها الحمامصي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إلى أن تدارك الله نجيب محفوظ بلطفه، وقيض له الفوز بجائزة نوبل، ربما ليرحمه فقط من مطاردة الحمامصي له بالأسئلة في كل شأن من الشؤون، وإقحامه في قضايا مترامية الأبعاد لا يصح بسطها في حوار مقتضب مأخوذ على الماشي كما يقال.

وأسوق هنا عينة منها للدلالة على وجع الدماغ الذي تسببه هذه النوعية من الأسئلة:

“لو ألقى نجيب محفوظ الآن نظرة على واقع العالم العربي فماذا يرى في الأفق؟”(ص144). “كيف يستطيع العقل العربي أن يمارس دوره حيث نلمس الآن غيابه؟”(ص147).

“تابعت أنت الحوار الذي فجرته ورقة تطوير الاتحاد الاشتراكي التي قدمها سيادة الرئيس -السادات- ما هي ملاحظاتك على هذا الحوار؟”(ص41).

وقد تعامل نجيب محفوظ مع هذا الصحافي اللجوج بسعة صدر تثير الدهشة، وأعطى في كثير من الأحيان إجابات موفقة، تتميز بالحصافة وبعد النظر، فكانت رؤاه استشرافًا للمستقبل، نلمس تحققها في وقتنا هذا، كما أن آراءه التي لم تكن مهضومة في حينها، وتعرض بسببها لنقد سلبي خشن اللهجة في مصر وغيرها من الدول العربية، تبدو بمرور الوقت واقعية وأقرب للممكن.

ومن ذلك الحملة الشرسة التي تعرض لها بسبب رواية “الكرنك” والفيلم السينمائي المأخوذ عنها، حيث اُتهم بمعاداة ثورة يوليو، ولكنه بجواب بسيط وضّح موقفه:

“الكرنك يدين الإرهاب، وهو سلبية لوثت ثورة يوليو ولا علاقة لها بروح الثورة ومبادئها.. وغير مقبول أن يتصور البعض أن إدانة الإرهاب إدانة للثورة “(ص79).

وأيضًا جلب له موقفه المؤيد لمبادرة السلام مشاكل كثيرة لدرجة منع كتبه من دخول بعض الأقطار العربية، ووصل الأمر في العراق إلى درجة تحريم ذكر اسمه في الصحف والمجلات العراقية!

وبعد أشواط مضنية من اللقاءات والمفاوضات على مدار أعوام طويلة، أصبحت نغمة (السلام) على لسان كل مسئول عربي من المحيط إلى الخليج، فلا أحد اليوم يقرع طبول الحرب، والجميع يُنادي بحلول سلمية عبر المفاوضات.

ولنجيب محفوظ رأي شديد الأهمية حول الفساد، أدلى به للحمامصي -لاحظوا أن هذا الكلام نشر في عام 1974 في مجلة المصور- وهذا نصه:

“على أي مسئول أن يكون قدوة للناس في الطهارة والتقشف، ولكننا لا نستطيع أن نصبر حتى تخف الظروف التي تدعو إلى الانحراف أو تتحسن الأخلاق، فيجب أن نرفع عصا القانون ضد المنحرفين وألا تأخذنا بهم الرحمة. وإذا حدث ذلك فإني أرجو أن يفرق من يمارس العقاب بين منحرف طمعًا في الجاه والمزيد من الكسب الحرام، وبين من ينحرف مضطرًا بدافع لقمة العيش، وأن عليه أن يوفر اللقمة للنوع الأخير قبل أن ينتقم منه، أما النوع الأول فيجب ملاحقته وتصفيته وتطهير مجتمعنا منه في كل مكان وكل موقع، ولتضرب هنا عصا القانون ولتكن غليظة”(ص47).

ومما سبق يتضح أن لنجيب محفوظ وعيًا قانونيًا رفيعًا، فالظرف الإنساني ينبغي أخذه في الحسبان عند تطبيق مواد القانون، لكي ترتبط العدالة بالإنصاف.

ورغم اعتراضي المبدئي على إقحام الأدباء في الشأن العام، وانتزاع أقوالهم بتلك الطريقة الصحفية الفجّة الأشبه بالاستجواب البوليسي -وخصوصًا في القضايا السياسية الحرجة- فإنه لابد من الاعتراف بفضل عبدالعال الحمامصي، الذي وثق آراء نجيب محفوظ وحفظها من الضياع في الاثني عشر حوارًا التي أجراها معه، ثم جمعها ونشرها في كتاب، مسديًا بذلك خدمة جليلة للأجيال الجديدة الراغبة في الاطلاع على أفكار الأديب العربي الراحل حامل نوبل للآداب، ونظرته للأحداث في عصره.

وإذا كان المصريون قد اهتموا بنجيب محفوظ عقب نيله جائزة نوبل للأدب عام 1988 وأصدروا أكثر من خمسين كتابًا عنه، فإن عبدالعال الحمامصي كان أسبقهم جميعًا، فقد بدأ سلسلة حواراته مع نجيب محفوظ منذ وقت مبكر، وقبل حصوله على الجائزة.

عبدالعال الحمامصي (1932-2009) له مجموعة قصصية عنوانها “للكتاكيت أجنحة”، وكتب نقدية ومؤلفات في المجال الثقافي، منها “أفكار لأمتي”، و”أقلام في موكب التنوير”، و”هذا الصوت وآخرون”، و”أحاديث حول الأدب والفن والثقافة”، كما عمل محررًا ثقافيًا في مجلات الصباح والعالم العربي والهلال والزهور والقصة، ورئيس تحرير سلسلة إشراقات أدبية، وشغل العديد من المواقع القيادية في اتحاد الكتاب ونادي القصة والمجلس الأعلى للثقافة.

ختامًا يبدو أن محاورات الأدباء والفنانين والعلماء والمفكرين هي في طريقها لتصير فرعًا من فروع الأدب الرفيع، وجزءً من التكوين المعرفي لأي مثقف جاد. ولا أدري متى ينتبه القائمون على شؤون الثقافة إلى هذا الفرع الأدبي المستجد فيرصدون له الجوائز المادية والمعنوية، ويوصون بتكريم المبرزين فيه، ليرتقي إلى درجة الكمال في تحضير الأسئلة وتحرير الأجوبة، ومن ثم تُقبل دور النشر على نشره ضمن فئة جديدة قد تسمى (محاورات) أو نحو ذلك، وأحسب أن هذه السلسلة من الإصدارات ستكون محط أنظار القراء وعنايتهم.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات