وجدي الأهدل*
تُجمع المصادر على أن المخرج المسرحي البرازيلي أوغستو بوال الذي استوعب جيدًا أفكار ما بعد الحداثة، هو الذي نقل المسرح من مسار الحداثة، إلى مسار جديد، مسار يتوافق مع نظرية تيار ما بعد الحداثة، ولأنّ خطوته جاءت في التوقيت الصحيح، أيّ في ستينيات القرن الماضي، فقد حققت نجاحًا عظيمًا.
كلمة سر أيّ فن ما بعد حداثي هي (المقاومة). ويمكن أن نلمح هذا الارتباط القوي بين اليسار وتيار ما بعد الحداثة في كتابات إدوارد سعيد وميشيل فوكو.
إذن أوغستو بوال اليساري هو الأب الروحي لهذا التيار المستجد من الفن المسرحي.
كيف هي صيغة هذا الفن المسرحي الجديد؟
“عروض بوال تبدأ بنص مسرحي معد مسبقًا، مسرحية كاملة في بعض الأحيان، يراها الجمهور ويستمتع بها، ولكنه لا يرى حلًا للقضية التي تطرحها” (1).
بعد ذلك يأتي دور (الجوكر) لإشراك الجمهور في العرض المسرحي، وقد ابتكر أوغستو بوال عدة تقنيات لهذه المشاركة: مسرح الصورة، مسرح الجريدة، والمسرح الخفي، ومسرح المنتدى – الذي تناسل منه المسرح التفاعلي – والمسرح التشريعي.
الجدير بالذكر أن أوغستو بوال هو مبتكر شخصية (الجوكر)، الذي يلعب دورًا محوريًا في المسرح التفاعلي.
يبدأ مسرح ما بعد الحداثة عندما يفقد المؤلف المسرحي أبوته للنص ويتوارى إلى الخلفية، وتستولي عناصر أخرى على مركز الصدارة. هذا الانقلاب في المراكز يُرى بجلاء في المسرح التفاعلي.
هل يمكن أن يتصل مواطن ما بمخرج مسرحي متخصص بالمسرح التفاعلي ويسأله أن يعرض مشكلته على الملأ، لعل وعسى يجد الناس الحل الأمثل لمشكلته؟
يبدو هذا من باب التمنيات، ولكن المسرح التفاعلي قادر على فعل ذلك بسهولة، بل لعل هذا هو الغرض من إنشاء المسرح التفاعلي وإفشائه في المجتمع.
يمكن للمسرح التفاعلي مناقشة قضايا ميكروسكوبية على مستوى الحارة، مثل خدمات البلدية والمدارس والحركة المرورية، التي يمكن للناس إذا اجتمعوا أن يتخلصوا من الظواهر التي تزعجهم في نطاق بيئتهم الضيقة.
ويمكن للمسرح التفاعلي أن يناقش القضايا اليومية السارية في المجتمع كله، كالمخدرات والبطالة وارتفاع الأسعار وتفشي الرشوة.
ويمكن للمسرح التفاعلي مناقشة القضايا الكبرى التي تشمل الوطن بأسره مثل الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق المواطنين، ومحاسبة الفاسدين في الجهاز الحكومي، ونحو ذلك من القضايا العامة التي تعني كل فرد في الوطن.
إنه مسرح مرن، يمكن أن ينشط من مستوى الحارة إلى النشاط على مستوى الدولة، ويستطيع مناقشة القضايا بمختلف أوزانها، من اليومي المحدود إلى القضايا السيادية المتشابكة مع المصالح العالمية.
المسرح التفاعلي وسيلة متحضرة ليعالج المجتمع أدرانه بالحوار العقلاني، والسماح بتعدد الآراء، وسماع أصوات المهمشين، والبحث عن حلول حقيقية مستمدة من أوساط الناس. فليس صحيحًا أن تأتي كل الحلول من النخبة المسيطرة في أعلى الهرم الاجتماعي، إذ ربما أن هذه النخبة لا تعنيها المشاكل المستشرية في قاع المجتمع، وإن التفتت إليها قد لا تهتدي لحلٍ لها، فحينئذٍ يمكن للعوام عبر المسرح التفاعلي، تقديم أفكار وحلول ناجعة لم تخطر ببال النخب الحاكمة، لأن النار كما يقال لا تحرق إلا رجل واطيها. وهكذا يمكن للمجتمع بمختلف شرائحه أن يساهم في معالجة قضاياه ومشاكله، ويستفيد الجميع من هذه المشاركة الشعبية الواسعة في النقاش وطرح الحلول.
حسب متابعتي للحركة المسرحية في اليمن، لم تظهر بعد عروض للمسرح التفاعلي، علمًا أن البلد يعاني من مشاكل مزمنة، عجزت الحكومات المتتابعة عن حلها، نظرًا لتفشي حمل السلاح، وصعوبة فرض أيّ قرار من جانب الدولة على المواطنين المسلحين المستقوين بقبائلهم في رفض أيّ إصلاحات ولو كانت في مصلحتهم.
في بلد كاليمن ينتشر فيه السلاح الخفيف كالبنادق والمتوسط كالمدافع في أيدي القبائل، فإنه لا سبيل لتطبيق سياسات الدولة إلا عن طريق الإقناع والتفاهم، وقد جربت الدولة اليمنية حملات التوعية المباشرة، ولكن تأثيرها كان ضعيفًا وغير مقنع بالنسبة لأغلبية المواطنين.
لكن ماذا لو استعانت الدولة اليمنية بالمسرح التفاعلي لإيصال رسائلها إلى المواطنين؟ أليس من الممكن أن تحقق نجاحًا أكبر؟ وربما تحقق أهدافها التي عجزت عن تحقيقها بالقوة..
لنأخذ على سبيل المثال ظاهرة حمل السلاح في اليمن، حيث يرتبط حمل السلاح بالثقافة السائدة في المجتمع أنه رمز للرجولة والشجاعة.. يمكن غض النظر عن هذه الثقافة في الريف، ولكن في المدينة تصبح هذه الثقافة خطرًا على السلام الاجتماعي في المدن، ومصدرًا لإقلاق السكينة العامة. علمًا أن القدماء كانت لديهم أعراف تحرم حمل السلاح في المدن، وكانت صنعاء على سبيل المثال قبل قيام الثورة في عام 1962 مسورة من جميع جهاتها ولها سبعة أبواب، وإذا أراد قبيلي دخولها سلَّم سلاحه ثم يسمحون له بالدخول، لأن كل سكان صنعاء القديمة مدنيون مسالمون لا يحملون السلاح، ويفرضون على من يدخل مدينتهم التخلي عن سلاحه.. ولكن هذه الأعراف القديمة تلاشت، وصارت المدن اليمنية تعج بالأسلحة والمسلحين، وربما تستعين الدولة بالمسرح التفاعلي لإقناع سكان المدن بالعودة إلى الأعراف القديمة، وفرض حظر على حمل السلاح في مدنهم.
كذلك ظاهرة تعاطي القات، فقد حاولت الدولة مكافحة تعاطيه عبر حملات توعية ولكن جهودها ذهبت أدراج الرياح، ولكن لم يفكر أحد في الاستفادة من المسرح التفاعلي لإقناع الناس بالكف عن تعاطيه، ونعتقد أن المسرح التفاعلي يمكن أن يساهم في الحد من هذه الآفة التي تستنزف المجتمع ماديًا ومعنويًا.
في بلد كاليمن يعيش فائضًا من المشاكل التي لا علاج لها، وتطرقنا لبعض منها آنفا، رأينا أن المسرح التفاعلي قد يكون الوصفة العلاجية للتخفيف من تلك المشاكل أو حتى الشفاء التام منها، ولكن ثمة عقبات متوقعة ستواجه الشخص أو الأشخاص الذين يريدون تقديم عروض المسرح التفاعلي في اليمن، وعقبات أخرى لا يمكن التنبؤ بها ولن تُعرف حتى ينزل الفنان المسرحي إلى الميدان.
فكل مشكلة يعاني منها الشعب اليمني وراءها مستفيد منها لن يسمح بتضرر مصالحه، وحتى لو تدخلت الدولة فإنها لا تستطيع حماية الفنانين في المسرح التفاعلي. فتجار السلاح لن ينظروا بعين الرضا إلى من يحاربهم في رزقهم بدعوة الناس إلى التخلي عن عادة حمل السلاح، وكذلك مزارعو القات الذين حقق بعضهم ثراءً فاحشًا من زراعته، لن يصبروا على من يحث الناس على ترك مضغه، وكشف حقيقة أنه إدمان ضار بالجيب والصحة وإهدار للوقت.
في الجانب الاجتماعي قد تتصادم رسائل المسرح التفاعلي مع العادات والتقاليد الراسخة منذ القدم، مثل زواج الصغيرات وهي من العادات الشائعة في المجتمع اليمني، ويمكن لشخص متطرف أن يستغل الظرف ويهيج العامة ضد المسرحيين ويعرض حياتهم للخطر.
في الجانب السياسي من المستبعد أن يتمكن المسرح التفاعلي من توجيه نقد يطال أي مؤسسة من مؤسسات السلطة، فلا وجود لهامش للمعارضة السياسية في اليمن، فالبلد مقسم إلى سلطات متعددة، وأي نقد للفساد سيفسر على أنه عمل تخريبي يصب في مصلحة سلطة أخرى معادية.
في ظل هذه الظروف من الانقسامات السياسية يبدو عسيرًا ميلاد المسرح التفاعلي في اليمن، وقد يؤجل هذا الميلاد إلى حين عودة الاستقرار السياسي، واستتباب الأمن، وسيطرة مؤسسات الدولة على زمام الأمور.
———————————-
(1) آلية اشتغال التغذية الراجعة في مسرح المقهورين: بشار عبد الغني محمد ومصعب إبراهيم محمد، مجلة الأكاديمي، كلية الفنون الجميلة – جامعة بغداد، العدد 104، 2022، ص 24.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات