Accessibility links

إعلان
إعلان
وجدي الأهدل*

واحد من أشد الأسئلة إثارة للاهتمام، طرحه د. خزعل الماجدي في فيديو على يوتيوب عنوانه “من هم النخب الذين صنعوا الحضارات؟”، وهو سؤال يُلح على ذهني لأسباب تتعلق ببلدي اليمن التي تنزل وئيدًا من سُلَّم الحضارة درجة درجة، وهو نزول مذموم، تأذى منه كل إنسان يعيش على تلك الرقعة من الأرض، باستثناء قلة قليلة محظوظة.

خزعل الماجدي باحث عراقي متخصص في علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة، وأضف إلى ذلك هو شاعر وكاتب مسرحي، وله ما يزيد عن الخمسين كتابًا تنوعت ما بين علم الأديان والحضارات والشعر والمسرح.

يعطي خزعل الماجدي جوابًا حصيفًا: الذين صنعوا الحضارات في بلاد الرافدين ومصر واليمن وفارس واليونان وروما والصين والهند هم “الحكماء والفلاسفة”.

معظم الملوك عبر التاريخ لم يكونوا على درجة عالية من الحكمة، ولكنهم أحاطوا أنفسهم بنخبة من الحكماء لإدارة دفة الدولة، وتطوير مؤسساتها.

يؤكد خزعل الماجدي أن صنع الحضارة لا يأتي عن طريق الشعب، وأنه من المستحيل حتى في وقتنا الراهن أن تمتلك الجماهير الحكمة لإدارة الدولة بطريقة صحيحة.

الجماهير لا تستطيع إنتاج حضارة، لأن ملكة التفكير لديها متفاوتة، ومستوى التعليم ليس متكافئًا ولا هو مقياس لقوة القدرات العقلية، وحدهم الحكماء يستنبطون الحلول للمشكلات الآنية التي تواجه الدولة، ويتولى الحاكم تفعيل هذه المقترحات والرؤى بما أوتي من سلطة تنفيذية.

الحكماء والفلاسفة في الحضارات القديمة هم الذين شرّعوا القوانين، والملوك هم الذين طبقوا تلك القوانين، وأنزلوا العقوبات الرادعة بحق المجرمين وقطاع الطرق والمحتالين والغشاشين وسواهم ممن يفسدون في الأرض، فأرسوا السلام والأمان وأقاموا العدل بالميزان، فانتعشت التجارة وتطورت الحضارة.

إذا تأملنا في بلاط ملكين عربيين أقاما مملكتهما في وقت متزامن، هما الإمام يحيى حميد الدين في جنوب شبه الجزيرة العربية، والملك عبدالعزيز آل سعود في شمالها، سنلاحظ أن الإمام لم يُحط نفسه بنخبة من المستشارين، فظلت مملكته تراوح في مكانها دون أيّ تقدم، وعجزت عن التطور، وعكسُ النمو هو الضعف الذي عجل لاحقًا بأفولها.

وأما الملك عبدالعزيز فقد أحاط نفسه بنخبة من المستشارين المحليين والعرب والأجانب، وتحققت من هؤلاء الحكماء فائدة عظيمة للدولة، فتطورت وازدهرت، وتمكنت من ترسيخ وجودها حتى يومنا هذا.

عندما ننظر إلى وضعنا الراهن، نجد أن السلطة قد تفككت إلى سلطات، وتصدر السياسيون المشهد، وتم فصل النخبة عن الدولة!

المصادفات قد توصل هذا أو ذاك إلى كرسي الحكم، ولكن النخبة ليست صنيعة الحظ، إنها نخبة على درجة عالية من الحكمة، تمتلك العلم والمعرفة والرؤية الاستراتيجية.

كمثال ينتمي الشاعر عبدالله البردوني إلى النخبة، وكان حريًا بالدولة أن تضمه إلى صفها كمستشار مسموع الكلمة، ولكن ما حدث أن الدولة العميقة استبعدته من القصر، وأوغرت صدر الحاكم ضده.

وُهبت اليمن هدية نادرة، وأُوتيت مثقفًا نخبويًا لا يتكرر إلا مرة كل ألف عام، هو الشاعر عبدالعزيز المقالح، ورغم أنه كان محسوبًا من رجالات البلاط ومستشارًا ثقافيًا للرئيس، فإن رأيه لم يكن يُؤخذ به، وهو ما عبر عنه بمرارة لجلسائه وأصدقائه.

واحد من أنجح حكام اليمن في العصر الإسلامي، لم يكن رجلًا بل امرأة، هي السيدة أروى بنت أحمد الصليحي، التي كانت هي ذاتها تنتمي إلى (النخبة)، وعلى قدر كبير من الثقافة، وفي فترة حكمها التي امتدت زهاء خمسين عامًا شهدت اليمن استقرارًا وتطورًا ونهضة علمية وثقافية وعمرانية، والسر في ذلك أن بلاطها كان يتكون من النخبة المثقفة في عصرها من العلماء والفقهاء ورجال الفكر.

حكام الدولة العباسية كان معروفًا عنهم حرصهم على أن تضم مجالسهم نخبة من الأدباء والشعراء والعلماء والبارعين في فنون التأليف من مختلف التخصصات.. وحصل بعض هؤلاء على مناصب رفيعة في الدولة، نذكر منهم العالم محمد الخوارزمي الذي ينسب إليه علم الخوارزميات، تولى في عهد المأمون إدارة بيت الحكمة، وكان تحت يده العشرات من الجغرافيين والمؤرخين والمترجمين الذين يعملون في مهمات علمية شديدة الأهمية.

وماذا عن الوقت الحاضر؟ لا أستطيع أن أجزم بشيء محدد.. ولكن لأن معظم القادة السياسيين في القرن الماضي والقرن الحالي جاؤوا من المؤسسة العسكرية، فإن المتوقع أن يمتلئ بلاطهم بالجنرالات، وألّا يوجد موطئ قدم لأيّ أديب أو مثقف.. لقد كانت المسافة الفكرية شاسعة بين جمال عبدالناصر الرئيس المتخرج من الكلية الحربية، وبين نجيب محفوظ المتخرج من كلية الفلسفة، وبعد وفاتهما واتضاح المآلات السياسية بمرور الزمن، نجد أن آراء نجيب محفوظ المبسوطة في رواياته ومقالاته وحواراته الصحفية هي الأقرب للصواب، ولو أخذ بها جمال عبدالناصر في وقتها لحافظ على المكتسبات التي تحققت في عهده إلى يومنا هذا، ولبنى عليها الرؤساء اللاحقون من بعده.

يبدو أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لم يكن لديه بلاط بالمعنى المتعارف عليه.. إذ كان جادًا إلى درجة أن مجلسه هو مجلس حرب، يقتصر على كبار قادة الجيش والأجهزة الأمنية والوزراء ومن شاكلهم من كبار الشخصيات في الدولة، ولم يكن مسموحًا لشاعر صعلوك أو روائي شبه مجنون بمجالسة المهيب الركن.. ولو أنه استبدل المثقفين والعلماء والمفكرين بضباط بلاطه واستمع إليهم، فلربما نجا العراق والأمة العربية بأكملها من سياساته التي فتحتْ الباب على مصراعيه لعودة الاستعمار من جديد.

لخص الشاعر عبدالله البردوني كارثة قرار غزو الكويت بهذا البيت الشعري البليغ:

يسهل الآن عجن أمري ولكن.. سوف يُعييك آخر الأمر أكلي.

وهذه الرؤية تحققت بتمامها، فأين كان الحكماء في بلاط صدام حسين ليخبروه بهذه الحقيقة قبل فوات الأوان؟! لكن أُخمِّن أن أيّ حكيم صادق ومخلص ما كان ليستطيع أن يصمد أكثر من خمس دقائق قبل أن يأمر الرئيس صدام حسين بقطع رأسه!

الخلاصة التي نصل إليها؛ أن اليمن قامت بفصل النخبة عن السلطة، فتفككت الدولة، واستولى صف طويل من القيادات السياسية والعسكرية والقبلية على كيانات مجزأة من الدولة، ومارس كل تكتل الخطأ نفسه، فاستبعد النخبة لظنه أنها تضعف موقفه وتوهن قواه، وقرّب حاملي الألقاب المشيخية والرتب العسكرية والكوادر الحزبية، فإذا بالحرب يشتعل أوارها أكثر، واللهب يمتد فلا ينطفئ كما توهموا.

يستطيع حكماء اليمن إنهاء الحرب في ساعة.. وأكثر من ذلك يستطيعون جعل البلد يستعيد عافيته ليعمل كالساعة.. ولكن هذا مرهون بإرادة جماعية لتحكيم الحكماء والقبول دون قيد أو شرط بما يحكمون به.

* روائي وكاتب يمني

   
 
إعلان

تعليقات