وجدي الأهدل*
تناهى إلى سمعي أنه قد صدرت رواية جيدة لوليد دماج.
العديد من الأصدقاء أثنوا على “ظلال الجفر” باكورة أعماله الروائية، التي فازت بجائزة دبي الثقافية في مجال الرواية عام 2011، ثم صدرت لاحقًا عن دار الآداب اللبنانية الذائعة الصيت عام 2013.
أتذكر أنني اقتنيت نسخة من مكتبة أبي ذر في حدة، وانكببتُ على قراءتها، لكي أرى إن كان ما يُقال عنها صحيح، أم أنه من باب التزلف لمؤلفها، فإذا بي انتهي من قراءتها في يومين.
ما كنت أعرفه عن وليد دماج أنه رجل حسابات وأرقام، هكذا يبدو في الظاهر، لكن خلف هذا المظهر التنكري، كان يقبع فنان عظيم.
التقيتُ بـ(المعلم) وسألته إن كان قد قرأ الرواية، فأجاب أنه قد قرأها، وذُهل مثلي من مستواها الفني الرفيع.
منذ العمل الأول امتلك وليد دماج (السر)، وصعد إلى ذروة شاهقة من ذُرى الفن الخالدة.
منذ البداية تجنب محاولة تمثيل الواقع، نسخ الواقع، تقليد الواقع، أو ما شئت من المصطلحات التي تشير إلى الأدب الواقعي البسيط المفتقر إلى الخيال الجامح، وذهب باتجاه تخليق فن روائي أصيل، يتميز بشكله الخاص المتفرد، ومدلولاته الحافلة بعوالم غامضة ذات الجذور العميقة في اللاوعي البشري.
يقول الناقد الإنجليزي كلايف بِل في كتابه الفن:
“أود ألا يتصور أحد أن التمثيل شيء سيئ في ذاته، فليس هناك ما يحول دون أن يكون شكل واقعي ما، وهو منتظم في مكانه كجزء من التصميم، مضاهيًا في الدلالة لآخر تجريدي، ولكن إذا كان لشكل تمثيلي قيمة فبوصفه شكلًا لا بوصفه تمثيلًا؛ فالعنصر التمثيلي في العمل الفني قد يضر وقد لا يضر، ولكنه دائمًا خارجٌ عن الموضوع، ذلك أننا لكي ندرك عملا من أعمال الفن لا نحتاج إلى نأتي معنا بشيء من الحياة، أو بمعرفة بأفكارها وشئونها أو بإلفٍ بانفعالاتها؛ فالفن ينتشلنا من عالم الدأب البشري إلى عالم الوجد الاستطيقي، ونحن في اللحظة الاستطيقية تنقطع أسبابنا بالاهتمامات البشرية، وتتوقف تطلعاتنا وذكرياتنا؛ إذ يشيل بنا الفن فوق تيار الحياة”.
توصل وليد دماج إلى هذا المسار الإبداعي بصورة فطرية، لكونه فنانًا أصيلًا، ونجح في تحقيقه بسلاسة مدهشة في “ظلال الجفر”، وفي أعماله الروائية اللاحقة: “وهم” و”وقش: هجرة الشمس”و”أبو صهيب العزي”.
في أحد اللقاءات التي جمعتني بوليد دماج في مقهى كوفي كورنر، تحدث عن الكم الهائل من الوقت الذي يستهلكه من أجل الكتابة، وأن هذا الاستقطاع يأتي على حساب الوقت الذي يفترض أن يخصصه لأسرته.. كان يتحدث عن اضطراره إلى إغلاق باب غرفته على نفسه، وحرمان أطفاله من وجوده بينهم.
أعباء الوظيفة الحكومية التهمت الجزء الأكبر من وقته وطاقته. ولاشك كان يحلم بالتفرغ التام لمشروعه الأدبي، وهو طموحه الحقيقي، ولكن تحقق هذا الحلم من سابع المستحيلات في بلدٍ لا يقدر قيمة المبدعين.
كان يرثي لحاله وحالنا، فالروائي في اليمن مجبر أن يصرف موارده الضئيلة على مشروعه الأدبي، فهو مشروع خاسر، تصرف عليه من جيبك مدة سنة أو بضع سنين، وبعد ذلك تصدر الرواية ولا أحد يشتريها، ربما باستثناء معارف الكاتب.
من المواقف التي أتذكرها، أن أحد الأصدقاء ناولني أوراقا مطوية، قصة قصيرة مُغفلة من اسم كاتبها، وطلب مني أن أعطي رأيي فيها وأشير إلى مثالبها. قرأت القصة القصيرة وفي اليوم التالي أعدت الأوراق إلى صديقي، وأخبرته أن المستوى الفني للقصة متقدم، تكاد تكون خالية من عيوب البدايات، وكاتبها يمتلك موهبة غير عادية. بعد ذلك كشف لي صديقي أن الكاتب هو وليد دماج، وأنه أراد أن يعرف رأيي بحيادية دون أن أتأثر بروابط الصداقة بيننا.
حدث هذا الموقف قبل أن ينشر أولى رواياته.
استهل وليد دماج مشواره الأدبي شاعرًا، كتابة الشعر تشبه هبوب نسيم عليل ينشرح له الصدر، والقصيدة يَسْهُل كتابتها في جلسة واحدة.
لكن عندما اتجه إلى السرد، وخصوصًا كتابة الرواية، أتذكر أن نظرته إليّ وإلى زملائه الروائيين تغيرت كليًا، وأدرك مقدار الشقاء الذي نرزح تحته، والأعمال الشاقة التي نُلزم أنفسنا بها.
كان يمزح وهو يقصد نفسه قبل أيّ أحد آخر: “أيّ يمني يفكر أن يكتب رواية لازم أهله يحجروا عليه”!
لم يكن الأمر بحاجة إلى كثير فطنة لكي أفهم أن مشروعه الأدبي الروائي قد صيَّره إنسانًا مختلفًا، فلم يعد يولي اهتمامًا جادًا لمسألة الترقي في مناصب الدولة، وهو طريق كان مفتوحًا أمامه، وبحسب إفادة العديد من الأصدقاء فإنه قد ضحى بمنصب مهم في المرفق الحكومي الذي كان يعمل به، وطلب أن يُعين مستشارا، وهو منصب بلا قيمة تقريبًا، وكان هدفه أن يسخر كل طاقة الحياة التي يمتلكها من أجل كتابة أكبر قدر ممكن من الروايات.
بالطبع خسر المنصب، وخسر الامتيازات المادية التي كان يمكن أن يجنيها من ورائه، لكنه كسب نفسه، ونقش اسمه بحروف من ذهب في سِفر الأدب اليمني المعاصر.
كان رهانه صحيحًا؛ المنصب بأمواله وامتيازاته سيتبخر في غمضة عين، ووحده الأثر الأدبي الذي يمكن أن يصمد في وجه تقلبات الزمن.
وليد أحمد ناجي دماج هو سليل أسرة باذخة المجد، عُرفت بالعلم والثقافة والأدب، ومن أعلامها الروائي الفذ زيد مطيع دماج والشاعر والمناضل أحمد قاسم دماج.
رأى النور في العاشر من مارس عام 1973، في قرية الجرفات بمديرية السياني-إب، تلقى تعليمه الأولى في قريته، ثم أكمل تعليمه في صنعاء، وتخرج من جامعتها من كلية التجارة قسم المحاسبة، وعمل في العديد من المؤسسات الحكومية.
ترجل فارس الرواية اليمنية عن عمر ناهز الخمسين عامًا، في التاسع عشر من أغسطس 2022.
كان يشعر أن حياته قصيرة.. وأن عليه أن ينتزع من فم القدر المحتوم أقصى ما في وسعه من إبداع فني يستحق الحياة أحقابًا طويلة من بعده، وهو ما كان.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات