Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

نادرون للغاية البشر الذين تمكنوا فعلًا من التواصل مع أرواحهم.. ربما بين كل مليون إنسان هناك واحد فقط، وفي بعض الأزمنة الرديئة قد تنخفض النسبة إلى أدنى من هذا المعدل.  

يقول كارل جوستاف يونغ في الكتاب الأحمر:

“عليّ أن أتعلم أن رواسب تفكيري وأحلامي، هي كلام روحي. عليّ أن أحمله في قلبي، وأعود إليه ذهابًا وإيابًا ككلمات أعز الناس عليّ”ص137.

في هذه الكلمات الموجزة يومئ يونغ إلى الجسر المهمل المؤدي إلى الضفة الأخرى.

أراد إخوة النبي يوسف عليه السلام الخلاص منه فألقوه في الجُب، فإذا هم قد أسدوا له معروفًا لا يقدر بثمن وهم لا يعلمون!

لقد اكتسب النبي يوسف – عليه السلام – مهارة عجيبة في تفسير الأحلام، والمؤكد أن هذه المهارة لم تكن متوفرة لأحد سواه في عصره.

في مصر – زمن النبي يوسف – وهي أرقى دولة في العالم حينذاك من حيث العلوم الهندسية والطبية والفلكية والتعدين والنسيج والصناعة، لم يكن يتوفر لديهم أي تراث معرفي أو خبرات في فهم رسائل العقل الباطن.

السؤال هو من أين اكتسب النبي يوسف عليه السلام هذه المعرفة؟ يصعب إعطاء الجواب، لأن الجواب نفسه لا يُعبر عنه بالكلمات! لكن مع ذلك يكفي أن نحاول إعطاء شبه جواب.

يمكن القول إن النبي يوسف عليه السلام لديه موهبة فطرية في معرفة أغوار النفس البشرية.. يشبه هذا أن يولد المرء ولديه موهبة في مجال ما، مثل الموسيقى أو الرسم أو الكتابة، إلخ.

ولكن، كما نعلم جميعًا، فإن الموهبة وحدها لا تكفي، فالعالم مليء بالموهوبين، إذ إلى جانب الموهبة، ينبغي أن يتوفر أمر آخر، وهو أن يقع حدث مركزي في حياة المرء يؤدي إلى تغيير كلي في عالمه الداخلي، أو بتعبير أدق، أن يُحدق في الموت وجهًا لوجه.

إن هذه الخبرة هي التي تمنح الموهوب فرصًا أفضل من أقرانه للاتصال بالعقل الباطن.. بالنسبة للنبي يوسف، فإن حادثة رميه في الجُب هي التي مهدت له الطريق الذهبي نحو العقل الباطن، واكتساب المعرفة التي لم يسبقه إليها أحد من قبل.

لا ريب أن الحلم العظيم الذي رآه في طفولته قد شدّ من عزيمته، وبالتالي جعله الإيمان بحلمه متشبثًا بالأمل، ومصممًا على عدم الاستسلام للموت أو اليأس.

نقطة أخرى يمكن أن نشير إليها، بالنسبة للنبي يوسف عليه السلام، وهي أن تجربة الخلوة التي تعرض لها في الجُب، قد وفرت له الخبرة اللازمة للاتصال بنبع المعرفة الخفي المسمى العقل الباطن.

وهذه الخبرة الاتصالية مع الأسف لا يمكن تعليمها، ولا حتى شرحها، لأن المؤكد بهذا الشأن، هو أنه لكل إنسان طريقه الخاص إذا ما أراد نيل هذه الخبرة الاتصالية.

البئر هو أحد أقوى الرموز الدالة على العقل الباطن. والشبه بينهما واضح جدًا، ومن ينزل إلى البئر قد لا يرجع.. وهكذا يبدو أن الموهبة والخطر أمران متلازمان، وهما المزيج الذي يُصنع منه قائد التغيير.

كذلك هو الحال بالنسبة للمبدع، عليه أن يمتلك حلمًا، وأن لا يشعر باليأس مطلقًا. وأما مسألة أن يمر المبدع بطقس الولادة الجديدة عبر النجاة من أنياب الموت فهي لا تأتي اختيارًا، وإنما القدر هو الذي يصطفي الأشخاص المُختارين.

في عالم الأدب، يكاد يُجمع النقاد، وحتى علماء النفس، على أن أكثر الأدباء دراية بأسرار النفس البشرية هو الروائي الروسي (فيودور دوستويفسكي). وفي حياة هذا الأديب العبقري حادثة مركزية، على الأرجح هي السبب في تفجير موهبته الروائية: انضم دوستويفسكي إلى حلقة “رابطة بيتراشيفسكي” وهي جماعة سرية، وتمكنت الشرطة من إلقاء القبض على جميع أعضائها، وحكم على دوستويفسكي بالإعدام، وعندما وقف أمام فصيل الإعدام، جاء في آخر لحظة مرسوم قيصري استبدل النفي ثماني سنوات إلى سيبيريا بالإعدام.

أصيب الشاعر عبدالله البردوني بالعمى وهو في الخامسة من عمره، وهذا جعله أقرب للعالم الداخلي من العالم الخارجي، فتطورت لديه حاسته الحدسية إلى درجة أذهلت كل معاصريه، فتوهم بعض العوام أن البردوني يمارس التنجيم أو ضرب الرمل أو نحو ذلك من وسائل التنبؤ بالغيب، لكن الشاعر لم يكن بحاجة إلى الاستبصار بأدوات خارجية، فقد امتلك البصيرة النابعة من روحه للسفر في الأزمنة، وقراءة المستقبل وكأنه يقرأ من كتاب مسطور.

أُعطيَ الإنسان نفسًا، قال تعالى:

“يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ” سورة النساء.

وأما بالنسبة للروح فهي شيء مختلف تمامًا، قال تعالى:

“وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ ۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا” الإسراء.

ويبدو أن علماء النفس قد اقتربوا من هذا المعنى، حيث قسموا الوعي إلى قسمين، الوعي واللا وعي، وأما كارل جوستاف يونغ فربما كان الأقرب منهم جميعًا إلى حل هذا اللغز الذي حيّر البشرية منذ قديم الأزل، فقسم الوعي إلى قسمين، العقل الفردي، والعقل الباطن الجماعي، وتعريفه في الويكيبيديا على النحو التالي:

“يشير مصطلح العقل الباطن الجماعي إلى بُنى العقل الباطن والتي تتشاركها الكائنات من ذات النوع”.

يحتاج الفنان والمبدع وكل من آنس في نفسه موهبة، أن يُخاطر بحياته ويمضي في رحلة داخلية باتجاه روحه هو، وأن يبحث عنها حتى يجدها، فإن تاه ولم يجدها فإن مصيره الحتمي هو الانتحار أو الجنون.

نقرأ عن ارتفاع معدلات الانتحار بين المبدعين، وكذلك عن التلازم المرعب بين العبقرية والجنون.

إن الروح هي سر الأسرار، وباب مجهول من أبواب المعرفة، ومعظم الناس يخلطون بين النفس التي لها بداية ونهاية بالميلاد والموت، وبين الروح السرمدية التي بدأت قبل ميلادنا ولن تفنى بوفاتنا.

تحدث الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي عن حادثة مركزية في حياته: لقائه بروحه على هيئة امرأة شقراء جميلة. وهو حدث أشار إليه في عدة مواضع من كتبه.

وهي التجربة الروحية التي نفترض أن كبار المتصوفة المسلمين قد مروا بها، وهي خبرة روحية تتشابه أوصافها في مختلف الأديان والحضارات، وأكثرها ذيوعًا التأمل البوذي الذي يهدف إلى تحقيق هذا الاتحاد بين النفس والروح.

في سن مبكرة جدًا – الثانية عشرة – تمكن النبي يوسف من لقاء روحه، في حادثة الجب التي أشرنا إليها آنفًا، وهي تكون مؤنثة بالنسبة للذكر، لذلك منذ أن اجتمع شمله بروحه لم يعد بإمكان أيّ امرأة بشرية مهما بلغ جمالها أن تفتنه أو تثير شغفه.

بالنسبة للمرأة تكون الروح مذكرة، ولعل الذي أتى إلى مريم العذراء ليهبها السيد المسيح لم يكن بشرًا ولا ملاكًا، ولكن روحها هي.. لا شبهة للدنس مطلقًا.. وهكذا تكون السيدة مريم هي النموذج البشري الأعلى لاتحاد الظاهر بالباطن، والوعي باللاوعي.

الظن أن الروح مجاز، أو مجرد ظل للجسد، خطأ واسع الانتشار.. الحقيقة أن الجسد هو الظل، والروح هي الجسد الحقيقي، وعلى الظل أن يدرك ضآلة شأنه ويتبع الأصل، وأن يتلاشى فيه.

على سطح كوكبنا الآن تسعة مليارات إنسان، لكل واحد منهم موهبة ما زوده بها الخالق سبحانه وتعالى لحظة ميلاده، وهي معه ولكن ليست متاحة، إلا إذا أصبح الغد هو الأمس، أو بتعبير ابن عربي “تقوم قيامته وتشرق شمسه من مغربه”.

* روائي وكاتب يمني

 

   
 
إعلان

تعليقات