حميد عقبي ـ باريس
في هذا النص، يتسلل الخوف خلسةً، لكن لا أحد يُعلنه صراخًا؛ كونه يختبئ في ثنايا الصور اليومية الهامسة، فينقلب البيض المسلوق الذي يُباع على الأرصفة إلى استعارة عن الحصار، وتغدو الأسماك الملوّنة في أحواض زجاجية زينةً لحياة لا تُعاش، بل تُراقب عن بعد.
الشاعر هنا لا يواجه الرعب مواجهة مباشرة وشجاعة؛ كونه يحاول أن يتجاوزه بصمتٍ مكسور، وبـ “كمية خرافية من البهجة”، يحاول أن يبتسم ليبقى حيًّا، أو يُوصَف بالإنسان الحيّ، كأن الضحك صار طقسًا وقائيًّا من الانهيار التام.
هذه القصيدة يمكننا تذوّقها كبَوحٍ ذاتي وكنموذجٍ ضمن نماذج الكتابة الشعرية اليمنية في زمن الصراعات، وهي كذلك مرآة لبلدٍ يعيش على هامش الوقت والخطر والموت، حيث تتناسل الحروب والمخاوف، ويغدو انتظار الحافلة حلمًا معلّقًا في هواءٍ رماديٍّ لا يصل.
محمد عبيد، كأغلب شعراء اليمن بالداخل، لم يكتب هنا عن الحرب بوصفها معركةً مباشرة، بل يكتب عن أثرها في النفس البسيطة، عن شاعرٍ فقد نافذته، عن نملةٍ تبحث عن حبّة قمح لا تطؤها الأقدام، عن سحابة لم تعد قادرة على المطر.
نحن أمام نسيجٍ من صورٍ صغيرة تمكّنت من تأسيس ميثولوجيا قروية حيّة، تشبه قلب الأم، ذلك القلب الجاف، النقي، الذي لا يتوقّف عن الانتظار رغم تشققات الأرض.
هكذا يمنح الشعر لحزن كاتبه بُعدًا يتجاوز جغرافيته، التي يمكن أن تُدمَّر في اللحظة التالية. لقد اختار لغة تمتاز ببساطتها، دون أن يقع في فخ الرثاء.
النص:
لم أعدْ أكتب عن البيض المسلوق،
وصرتُ أكتب عن الأسماك الملوّنة
داخل الأحواض الزجاجية..
لم أعد شاعرًا كما ينبغي لشاعر
يسكنُ في كومة قش،
وصرتُ أكثر خوفًا
مثل سحابة لا تمطر دائمًا
لأنّ الغيم مثقل
والسحابة لا تحمل إرثًا قديمًا
يشبه الرمل الذي تحتاجه نملة
لتبني مسكنًا في حقول القمح
لا تهدمه الأقدام
الأقدام التي لا ترى في الأعالي
سوى سحابات بيضاء
مثل قلب أمي
جافة كأرض قريتنا..
لست حزينًا
وأستهلك كمية خرافية من البهجة
لأبتسم وأنثر البياض
الذي أكتب فيه عن شاعر حزين
ليس لديه نافذة
ومنذ أعوام لم يكتب قصيدة
لأنّ السماء عالية
والأسماك لا تصلح جميعها للزينة..
أدري بأن الحزن لا تساويه
كذبة صغيرة
لصديق يكتب عن حبيبة مفترضة
ولا يجد من ينتظره
في موقف الحافلات !!
في بنية هذا النص، يستبدل محمد عبيد الشكل الخطابي والانفعال الغاضب بشاعرية تنتمي إلى نوع الانزياح الصامت. لا نجد صوتًا يعلو أو ينذر بالخطر أو يصف الواقع بشكل صريح، توجد كثافة في التخفي والمراوغة، ونزعة داخلية إلى الانسحاب من صخب العالم وضجيج الموت في كل زاوية، كأن الشاعر يقرِّر أن يراقب الأشياء بدل أن يصرخ فيها أو فينا. كما سنلاحظ في بداية هذا النص، حيث يعلن الشاعر التحوّل والتخلي عن “البيض المسلوق”، كرمز للفقر والمألوف، لصالح “الأسماك الملوّنة”، وهي صورة تنطوي على تناقض بين الزينة وفقدان الحرية، الجمال والعجز، وهنا نحن مع رسم مشهد تمزّق الشاعر بين التجمّل والتقوقع. سنجد أن هذا النص، وعشرات النصوص التي يكتبها مبدعو اليمن في الداخل، يتفنّنون في التخفي والتقاط أشياء وصور صغيرة للتعبير عن الواقع.
التكرار البنيوي لـ”لم أعد” يصوّر مسار انحدار أو تحوّل داخلي، فنرى أن الشاعر يخلع هوية وصفة الشاعر نفسها، ليس لأنه كفّ عن الكتابة، بل لأنه لم يعد يكتب من مكان رومانسي أو آمن، بل من “كومة قش” تجعله على حافة الفناء. هذه الكومة ليست بيتًا، بل تصوير لقلق دائم من أن “تدوسه الأقدام” التي لا ترى، لا تحس، ولا تبالي.
في استعارة “السحابة التي لا تمطر”، نكتشف عمق الارتباك بين الامتلاء والعجز؛ فالغيم مثقل لكنه لا يعطي. هنا تصوير لحالة واقع مثخن بالانتظار والفقد، والغياب هنا لم يعد فقط غياب المطر، بل غياب الكثير من الحياة، القدرة، الجدوى. بهذا المعنى، كل ما في النص يدور حول مفارقة الحضور والغياب، القرب واللا جدوى، حتى قلب الأم – رمز العطاء والصفاء والمنقذ من الخوف – يصبح “جافًا”، وإن ظل أبيض مثل السحاب.
أما القسم الثاني من النص، فهو انحدار صريح نحو اعترافات مؤلمة: الشاعر لا يكتب لأنه شاعر، بل لأنه يريد النجاة. يبتسم، رغم أنه لم تعد هنا سعادة، بل لأن الابتسام هو القناع الذي تبقّى له، وهو القناع المتاح رغم ما يورثه من ألم داخلي. وما تبقّى في هذا البلد يُختزل في “نافذة مفقودة”، و”حافلة لا تأتي”، وصديق يكتب لحبيبة “مفترضة”، أي حبٍّ مصنوع، غير موجود، كأننا في مسرح ظلال هشّ، لا وجود فيه لثقل حقيقي، وربما هو صاحب هذه الحبيبة الافتراضية، لكنه يُخفي هذه الحقيقة كما يُخفي كل شيء. نقرأ هنا ما يعانيه المبدع اليمني من خوف يتضخّم كل لحظة، ولا يعرف أحد ما سيحدث في اللحظة التالية.
خاتمة النص تلقي بثقلها الفلسفي:
“أدري بأن الحزن لا تساويه كذبة صغيرة”.
هذه الجملة كأنها صفعة باردة، تكشف أن كل محاولات التجميل، الكذب، أو حتى الشعر، لا تقوى على ملامسة الحزن الحقيقي. هذا الحزن الذي لا يُكفّر عنه، لا يُخفَّف، ولا يُداوى، سوى بالاعتراف بوجوده، لا بمحاولة التهرّب منه، فهو جزء من الواقع.
إنه نصٌّ يكتب عن اللا جدوى في زمنٍ مثقل بالانتظارات الكثيرة، حيث لا القصائد تُكتب، ولا النوافذ تُفتح، ولا السماء تنحني لتمنح بعض الحياة.
في خاتمة هذا النص تتكشّف أمامنا صور صغيرة، لكنها شديدة الكثافة والدلالة. هذا النص نموذج من الكثير من النصوص اليمنية التي تتفنّن في التقاط الصور الصغيرة، ليس من أجل الزينة اللغوية، بل باعتبارها شظايا حياة متصدعة يشعر بها كل يمني. هذه اللقطات تتآزر لتمنح الواقع المأزوم بُعدًا إنسانيًا رمزيًا. بين النملة والسحابة، بين الأقدام العمياء وقلب الأم الجاف، نلاحظ أن بعض القصائد اليمنية تنزع إلى تشكّل ميثولوجيا شعرية تنبع من القرى اليمنية المنسية أو الأرصفة البائسة في بلدان المهجر. الكتابة، رغم كل هذه الظروف، تعبّر عن مخاوفنا من الانمحاء. هكذا يتحوّل اليومي والمألوف إلى آفاق رمزية ودلالية نابضة. قد يصعب قراءة ما يريده كل مبدع، لكن الجميع يتوق إلى الحياة والكرامة والحرية.
تعليقات