وجدي الأهدل*
لاحظتُ أن المثقفين في الشرق والغرب يحتفظون بعلاقات جيدة مع بعضهم البعض، وكل واحد يقدّر الآخر، فهم يشكلون كتلة تعمل لصالح المجتمع، ويجسدون في سلوكهم اليومي والمباشر المبادئ الإنسانية التي هم معنيون بنشرها في مجتمعاتهم.
لا شك أنّ هناك فرقًا ما بين الشرطي والمثقف في السلوك وفي التفكير.. مثلًا شرطي الحدود قد يطلق النار على اللاجئ الذي فرّ من موطنه خوفًا على حياته، ولكن الأديب سوف يطالب بمنح اللاجئ فرصة الحياة وإدماجه في المجتمع.
الشرطي نظرته قاصرة ويظن أن الرصاصة ستنقذ بلاده، والأديب بعيد النظر ويدرك أن النفوس التي أُحييتْ ستُحيي بلاده وتحمي سقف بيته.
بالنسبة للمثقف والأديب العربي، أحيانًا تسيطر على البعض عقلية (شرطي الحدود)، كهذا الذي يراقب الأدباء الشبان الجدد، ويعدهم دخلاء، ويعرقلهم، ويفرد ذراعيه لا لاحتضانهم، ولكن لمنعهم من دخول جمهورية الأدب، ويطردهم بحجة أن مائدة الأدب لم يعد فيها متسع لوافدين جدد!
بالطبع أيّ أديب يعيش بهذه العقلية الاستحواذية المفرطة في حب الذات والنرجسية، لن يتمكن أبدًا من قول أو فعل أيّ شيء مفيد لقضايا مجتمعه، ولن يسمو على الإطلاق إلى الإيمان بالمثل والمبادئ العليا، وسيبقى أسيرًا لأناه، ومبدعًا أعمى لا يرى أحدًا باستثناء نفسه.
وفي أحايين أخرى قد نجد الوضع معكوسًا، فيأتي الأديب المبتدئ متأهبًا لاقتحام المائدة، وطرد كل من عليها، وكأن من سبقه ليس جديرًا بالجلوس إليها، وأنه وحده من يحق له التمتع بخيراتها دون أن يشاركه أحد!
وهؤلاء المقتحمون الجدد الذين يحملون عقلية (شرطي الحدود) هم أقلية، وبالطبع ليسوا مبدعين، وإنما هم يسعون وراء الحظوة لدى المجتمع، ولفت انتباه الجنس اللطيف.
يتحول الأدب إلى نوع من (البرستيج) الاجتماعي عند البعض، فهو ملحق لإضفاء هالة من الحضور على صاحبها، ونيل لقب يتفاخر به على من حوله.
يفترض بالمريد الجديد الذي يريد الدخول إلى رحاب الأدب، أن يشعر بالرهبة، وأن يمتلئ قلبه بالخشوع، وأن يلبس رداء التواضع، وأن يُجلّ من سبقوه.
إن العابد التقي -من أي ديانة كانت- إذا دلف إلى مكان العبادة، سوف تتبدل كيمياء روحه، ويحس أنه قريب من الكمال الأخلاقي. وبالنسبة للشخص الذي يرغب أن يكون كاتبًا، يجدر به أن يكون على غرار العابد التقي، أيّ أن يحمل في قلبه قدرًا عظيمًا من الإيمان، لا بنفسه، ولكن بالكتابة نفسها. فإذا كان قلبه مشغولًا بأمور أخرى، فرحمة به وبالقراء، عليه أن يُدقق في اختياراته، وأن يسلك طريقه مباشرة إلى أهدافه بعيدًا عن استهلاك “الكتابة” لأغراضه الخاصة.
النوع الرديء من الكتاب يتصور أن الأدب ما هو إلا حلبة للمصارعة، فيصير مشاكسًا ميالًا إلى استعراض عضلاته، وبارعًا في النميمة الثقافية أكثر من براعته في الإبداع.
النوع الجيد من الكتاب يؤمن أن الأدب شجرة ضخمة، أضخم من الحياة نفسها، وأنه إذا كان محظوظًا، سوف تباركه الشجرة، وتمنحه مقدارًا معينًا من ثمارها، على قدر ما يبذله من محبة وجهد وعرق.
لعل الشيء الأكثر تمثيلًا لسمو ونبل الكائن البشري هو (الأدب)، ومن المستبعد أن يتمكن من إنتاج الأدب إنسان يحمل في ذاته ما يناقض معاني الجمال والكمال الأخلاقي.
إن التنافس بين الأقران هي سنة من سنن الحياة، ولكن يُفترض بمن امتلك الوعي بدوره التنويري أن يضع المنافسة والمزاحمة والحسد تحت قدميه، وأن يعرف أن معركته ليست ضد هذا المبدع أو ذاك، ولكنها معركة كبرى ضد الجهل والتعصب والعنف والضيق الفكري والاستبداد.. وأن زملاءه من الأدباء والفنانين والمثقفين هم رفاق السلاح والسند الذي يسند إليه ظهره، وهم جيش النور الذي تقع على عاتقه المسئولية التاريخية العظمى في النهوض بالأمة وقيادتها إلى التطور والحضارة والدولة المدنية.
لم تنجح الجماعات الدينية في التحكم بالمجتمع اليمني إلا لأن أياديهم مجتمعة، وأنهم صاروا على درجة عالية من التنظيم، وهناك نوع من الأخوية التي تربطهم جميعا برباط وثيق..
وأما الطليعة المثقفة، فإن التباغض والتنافر فيما بينهم قد جعل كلمتهم غير مسموعة، ومشروعهم التحديثي والتنويري مجرد كلام على الورق لا أثر له بين الناس، فلا شيء يجمعهم، ولا نظام يتكتلون داخله فيُعظّم تأثيرهم، ولا هم يد واحدة ليلعبوا دورًا في حاضر ومستقبل اليمن.
يمتلك المثقف الرؤية، ولكنه لا يمتلك الأداة التنفيذية لتحويل رؤيته إلى حقائق على أرض الواقع، بينما يمتلك الآخرون الأدوات التنفيذية ولكنهم بلا رؤية.. ولحل هذه المعضلة فإن على المثقفين اليمنيين بمختلف أطيافهم توحيد قواهم في كيان واحد، واختيار قائد يمثلهم في أعلى الهيئات السياسية، وأن على هذا القائد التحدث بلسان حال المثقفين اليمنيين، وطرح رؤيتهم ومشروعهم للحل السياسي، وآمل أن مائدة السياسيين تتسع لإضافة مثقف واحد على الأقل!
ربما هذه مجرد أحلام غير قابلة للتحقيق، خصوصًا فكرة تنظيم كافة الفئات المثقفة في إطار نقابي واحد، كيان يجمع تحت مظلته الأديب والفنان والأكاديمي والصحافي والطبيب والمهندس وسوى ذلك من الشرائح المثقفة، وأن يتوافقوا على رؤية موحدة.. هذه القدرة التنظيمية مفقودة، إلا إذا وجد تيار ثقافي يعمل كمغناطيس لجذب النخب ودمجها في كتلة كبرى ليصبح صوت النخب المثقفة مسموعًا في الداخل والخارج ومؤثرًا في صنع التغيير الإيجابي.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات