برفْع قبعة التخرج الجامعي في “الإعلام”.. كفيفة يمنية تتجاوز الإعاقة والتنمر وتحديات الحرب بسيرة “مختلفة”
تخرُّج أماني يأتي كمحصلة لنتائج سلسلة طويلة من المعارك التي خاضتها خلال رحلة علاجها ودراستها.
خاضت أماني تحديات فقدان البصر وتجرعت مرارات الأخطاء الطبية ومن ثم التنمر ورفض قبولها في المدرسة لكنها تحدت ذلك وانتصرت لهمتها والتحقت بكلية الإعلام.
قصة أماني التي تخرجت في جامعة صنعاء لا تقتصر في كونها كفيفة تجاوزت إعاقتها، بل لكونها تجاوزت كل مشاكل مجتمعها وفي مقدمتها الفساد الطبي والثقافي وقبل ذلك معضلة الحرب.
صنعاء – “اليمني الأميركي” – أحمد الكمالي:
“تخرجي في الجامعة لا يمثل تتويجًا لمشوار أربع سنوات من الاجتهاد والصبر ومغالبة التحديات فحسب، وإنما محطة فارقة من حياتي، تقدّم شهادة جلية على صوابية النهج الذي اهتديت إليه للتعاطي مع معاناة فقداني للبصر في مراحل متفرقة من طفولتي وشبابي”، تقول لـ”اليمني الأميركي”، الطالبة اليمنية الكفيفة أماني عبدالكريم (24 عامًا)، موضحة بفخر شعورها وهي تحتفل اليوم بتخرجها في قسم العلاقات العامة كلية الإعلام بجامعة صنعاء (2024)، مرغمة الأضواء التي فاجأتها بشكل قاس بالانطفاء منذ طفولتها، بفعل الخطأ الطبي والانفلات الأمني وظروف الحرب والحصار، إلى العودة لتحيط بها وتشعل الأجواء من حولها مجددًا، وقد صارت أماني بوعيها، وصبرها، وكفاحها، ونجاحها، مصدر النور الذي لن يخفت، ومثالاً ملهمًا على انتصار العزيمة، والأمل على الإحباط واليأس.
تؤكد أماني: “كانت الأيام تفجعني، وهي تحمل لي بين الحين والآخر، أسبابًا لخفوت الأضواء من حولي حتى غيابها تمامًا، لكنني بالنهاية وصلت إلى قناعة بالنظر للأمر من منظور مختلف غير منظور الإحباط والاستسلام للإعاقة، بل بكون ما حصل ويحصل لي من ابتلاءات، يمثل اختبارًا حقيقيًا يحتم عليّ مواجهته واجتيازه بشجاعة وقوة وإيمان راسخ بقدراتي، وكانت هذه القناعة هي السر وراء مواصلتي حياتي الطبيعية دون انكسار، والدافع لتمسكي بحقي في التعليم والأحلام والطموحات الكبيرة التي أقف، اليوم، على أولى عتباتها بتخرجي في الجامعة”.
رحلة فقدان البصر
بدأت معاناة أماني مع فقدان البصر، في السنة السابعة من عمرها، حيث لاحظت أسرتها حينذاك أعراض قصر نظر، فتم أخذها إلى طبيب في مدينة الحديدة التي تسكن فيها الأسرة، ليقرر لها ذلك الطبيب “نظارة” كانت بحسب تشخيصات تقارير طبية تم إجراؤها بعد ذلك، سببًا في تدهور صحة بصرها أكثر، ثم قررت الأسرة السفر بأماني لتلقي العلاج في مستشفيات العاصمة صنعاء، وهناك خضعت الطفلة لعملية فاشلة كلفتها عينها اليمنى، بحسب توضيح والد الطفلة أماني، عبد الكريم العزاني، لـ”اليمني الأميركي”.
على إثر فشل العملية التي أجريت لأماني عام 2006، لجأت الأسرة إلى خيار إجراء عملية تجميلية واستمرت الطفلة تنظر بالعين اليسرى حتى عام 2014، حينها حدث ما لم يتوقعه أحد، تقول أماني: “ذات يوم، تهجم أحد النافذين على منزلنا في مدينة الحديدة، على خلفية مواقف وآراء أبي السياسية، كنت حينها نائمة وحصل أن البلطجي لم يصدق أن والدي خارج المنزل، فقام بتكسير الباب وعلى صوت صياح والدي ووالدتي صحوت مصابة بالذعر، وشعرت في عيني اليسرى إضاءة قوية-شخصها الأطباء فيما بعد بـ”انفصال في الشبكية”.. وما هي إلا أيام حتى كنت قد فقدت القدرة على الرؤية بها بشكل شبه كلي!”.
الخطأ الطبي والانفلات والحصار
ويشير والد “أماني” إلى أنه بعد “إدراكنا ما حصل والضرر الذي لحق بالعين الوحيدة المتبقية لابنتنا، تدبرنا بمساعدة أصدقائي تكاليف سفرها إلى جمهورية مصر العربية لإنقاذ عينها اليسرى، وهناك تأكد لي – على لسان الأطباء المصريين – الخطأ الطبي الكبير الذي وقع في العملية الأولى وفقدت بسببه ابنتي البصر في عينها اليمنى، ثم اخضعت أماني لعملية جراحية تكللت بالنجاح وعادت إليها الرؤية من جديد”.
عادت أماني إلى البلد مع أمل كبير في تعافي عينها اليسرى بعد استكمال برنامج العلاج، لكن وللمرة الثانية حدث ما لم يكن في الحسبان لدى أماني وأسرتها، بل واليمنيين جميعا هذه المرة، إذ دخلت البلد حربًا خارجية وداخلية منذ مارس/ آذار من 2015، وفرض على مطاراتها ومنافذها حصارًا شاملًا لا زال جزء كبير من تداعياته مستمرًا حتى اليوم.
يقول والد “أماني”: “كان من المقرر أن تعود أماني إلى مصر لزيارة طبيبها بعد تسعة أشهر من موعد إجراء العملية الأولى، لكن بسبب الحرب تأخرت رحلتها العلاجية الثانية لأكثر من سبعة أشهر على الموعد المحدد، ما تسبب لها بمضاعفات صحية خطيرة نتج عنها فشل برنامج العلاج وفقدانها النظر في عينها اليسرى والوحيدة”.
“فقداني كليًا للنظر بعد رحلة علاج طويلة ومرهقة على ما كان فيه من معاناة نفسية كبيرة لي وأسرتي، إلا أنني اجتزت تداعياته سريعًا بفضل الدعم النفسي الذي يقدمه لي والدي دومًا، والذي عودني على التعاطي مع الأمور بنضج كبير”، تقول أماني لـ”اليمني الأميركي”.
أكثر من قبعة وشهادة
وتضيف مستذكرة: “بالرغم مما تعرضت له من مواقف تنمر كثيرة في حياتي بسبب حالتي الصحية، ابتداء من رفاق سن، مرورًا بمديرة إحدى المدارس في مرحلة دراستي الإعدادية والتي رفضت بالبداية قبولي للانتساب بالمدرسة، إلى زملاء دراسة وأشخاص أقارب أو من المجتمع حاولوا التقليل من قدراتي على مواصلة الدراسة أو القيام بأي أمر ناجح ومفيد، بعضهم كان ينعتني بالعمياء ويفترض أن أكثر ما أستطيع القيام به هو البقاء في المنزل وممارسة طقوس دينية كتعبير عن العجز وعدم الحيلة..”، تتوقف أماني عن الكلام لوهلة، وتكتفي بإشارة يدها إلى قبعة التخرج !
في تجربة الطالبة أماني عبدالكريم وتخرجها في الجامعة، لا يقاس الإنجاز بحساب السنوات والدرجات العلمية فحسب على ما فيها من جهد ونجاح يستحق الاحتفاء والإشادة، لكن القياس المنصف والشيء المميز في إنجازها هو بكونه يأتي كمحصلة لنتائج سلسلة طويلة من معارك الشعور التي خاضتها الطالبة أماني خلال رحلة علاجها ودراستها، وخرجت منها بالأخير منتصرة، تحمل بين يديها وتضع على رأسها، شيئًا أكثر من قبعة وشهادة.
تخصص وطموح ورسالة
وحول سؤالنا الخريجة أماني عن سبب اختيارها مجال الإعلام بالذات، تشير أماني إلى عدة أسباب منها “هوايتي لهذا المجال من صغري، وأرى فيه تحقيقًا لذاتي، بالإضافة إلى أن هذا المجال فيه خصوصية تشجع إقبال المكفوفين على الانتساب إليه بشكل كبير مقارنة ببقية التخصصات في جامعات البلد، نتيجة لكون منهجه ووسائله متاحة وفيه نجد سهولة بدمجنا مع المجتمع، كما أننا نعتقد أنه يمكننا من امتلاك أدوات مؤثرة للتعبير عن آرائنا والدفاع عن حقوقنا بقوة وشجاعة”.
وتستدرك أماني: “إلا أن طموحي الأكبر والمجال الذي أرغب بالعمل فيه مستقبلاً، هو التمثيل، وهو ما سأعمل على تحقيقه خلال مشواري القادم”.
وتوجه أماني عبر “اليمني الأميركي”، رسالتها لأقرانها من الفتيات اليمنيات، الكفيفات منهن بالذات، بالقول: “التعليم هو المجال الذي سنتمكن من خلاله الحفاظ على حقوقنا كنساء، وإثبات دورنا وتعزيز مشاركتنا في المجتمع، أما للكفيفات فالإعاقة ليست عبئًا أو حاجزًا لمنعكن عن الوصول إلى أهدافكن وتحقيق طموحاتكن، وينبغي أن تثبتن للجميع أنه ما من عيب أن يكون المرء كفيفًا وأن الكفيف قادر مثله مثل المبصر، وأن الشيء المهم الذي يستحق الحمد والثناء والفخر، هو أن يكون المرء صاحب بصيرة”.
تعليقات