عبدالله الصعفاني*
عذرًا شجرة البن.. سامحينا يا جمنة القِشْر.. لطفًا يا كوب البُن.
* مبعث الاعتذار، أننا نجهل السيرة الذاتية العظيمة لقهوة الصباح والمساء.. وليس جهلنا إلا تعبيرًا عن حالنا البائس تجاه نقاط الإشراق والجمال في تاريخ اليمن الذي كان سعيدًا.
* في موضوع القهوة اليمنية وكيف غزت العالم، بدا لي كأن تاريخ القهوة وشهرتها لم يظهر بتفاصيله الدقيقة المثيرة إلا خارج اليمن، على طريقة انتشار أبو بكر سالم وهدف اليمني الكابتن علي محسن في مرمى ريال مدريد.
* كان للقهوة شنَّة ورنَّة تأريخية ليس لنا في رصد انتشارها ناقة ولا بعير.. ولكم أن تتخيلوا كيف اندلعت الكثير من الحروب الباردة المحلية والإقليمية والدولية في العالم حول البن والقهاوي وهو ما لم أعرفه وأنا من جيل انشغل في دراسته بتضاريس مناخات لا تهمني أبدًا، شأن المنهج الدراسي الذي ألزمني بحفظ معلومة أنّ مناخ البحر المتوسط حار جاف صيفًا ودافئ وممطر شتاءً.. ما أسخف انشغالنا بما لا يعنينا عمّا يعنينا.
* تقول الحكاية أنّ رجلاً يُدعى عمر تاه في الصحراء خارج مدينة المخا ورأى في منامه ما أرشده إلى مكان شجرة.. وهناك تناول ما تيسّر من ثمرها.. شعَر عُمر بجميل تأثيرها على جسده واعتبر ومعه الذين استمعوا لحكايته بأن شجرة البن تلك كانت سببًا في بقاء الرجل التائه محتفظًا بحيويته، وأنّ الله كما أنقذه فقد ألهمه نقل اكتشافه إلى العالم، بعد أن صارت القهوة مشروبًا لذيذًا شائعًا في المخا، وكل اليمن.
* وكان الصوفيون بعدها يستخدمون القهوة لإبعاد النوم أثناء أداء الصلوات والطقوس الصوفية الدينية في الليل.. وجدوا ضالتهم في مشروب يساعدهم على أنْ يؤدوا طقوسهم الدينية المتمايلة محبةً وشوقًا لله.. وترجمةً لقوله تعالى: (كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون).
* وانتشر البن اليمني من اليمن إلى عوالم أخرى في العالم، وفي المقدمة مكة المكرمة والقاهرة في العام 1510، لكن القهوة خرجت عن ارتباطها الديني عندما رأى فقهاء أن القهوة شراب مسْكِر، لينتقل الموقف الغامض تجاهها إلى درجة صدور قرار من حاكم في مكة اسمه “خير بك” الذي قضى بتحريمها، لكن حاكم القاهرة لم يؤيده في تحريم القهوة وبيعها، وإنما وافقه على رفض التجمعات التي كانت تتم بداعي تناولها..!
* ويمكن استخلاص أن الغضب على القهوة لم يكن لتأثيرها البسيط على الشخص الذي يتناولها وإنما لأنها أثارت حفيظة السلطات في ظروف زمانية ومكانية صارت فيها القهاوي بؤرًا للتجمعات، والشائعات والجدل السياسي غير المرغوب فيه، وحتى النكت والمناقشات الساخرة.
* ولم تكن الحروب على القهوة عربية فحسب، وإنما عالمية أيضًا.. حيث بحث تشارلز (ملك بريطانيا الثاني) عن ذريعة لإغلاق المقاهي ووصل الأمر بأعوانه من المعارضين للقهوة إلى ترويج الشائعات، وبأن رائحة القهوة كريهة وتُذكّر بالأحذية القديمة.
* ووصل الأمر في العام 1675 درجة أن يصدر تشارلز الثاني قرارًا بإغلاق المقاهي؛ لأن المخبرين والحاقدين يكتبون فيها تقارير ينشرونها في الخارج بغرض تشويه سمعة حكومته.. ثم فتحوا القهاوي، ولكن بشرط دفع 500 جنيه مع قَسَم الولاء.
* وفي فرنسا أعلنوا أن القهوة اختراع اجنبي حقير تم اكتشافه بواسطة الماعز والجمال، وأنها تسبب الشلل والنحافة.
* ومن أبرز محاولات التصدي لانتشار القهوة في أوروبا ادعاء أصحاب حانات الخمر أن شاربي القهوة كسالى وثرثارون، واعتبروا القهوة منافسة لهم حتى إنهم أرغموا مالك قهوة اسمه “روزي” على مغادرة البلد..! لكن القهوة حافظت على قوة انتشارها.
* غير أنه كان للقهوة دائمًا مناصرين أشداء لها تصدُّوا لحملات التشويه، ووصلت بهم المبالغة والمرافعة العاشقة للقهوة درجة القول بأنه إذا لم تتناول الخادمات والخيَّاطات قهوتهنّ صباح كل يوم، فلن يمر الخيط في عين الإبرة، وليغزو مشروب القهوة أوروبا كلها.
بُّن اليمن يادُرَر..
يا كنز فوق الشجر..
* كاتب يمني
تعليقات