Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

اليمن بلد فريد من نوعه؛ القبائل الفلاحية بدلًا من أن تندمج في مجتمع مدني متناسق، تحولت إلى قبائل سياسية شرسة ذات طابع عدائي جدًا.

القبيلي الذي كان يطيع شيخ قبيلته، صار اليوم يطيع الأمين العام لحزبه.

لا توجد أحزاب سياسية في اليمن، ليس بالصيغة المعلومة في كافة أنحاء الدنيا، ولكنها قبائل سياسية، والفرق بينهما كالفرق بين المشرق والمغرب.

الأحزاب السياسية في أيّ بلد من بلدان العالم تسعى إلى السلطة عن طريق الانتخابات، وأما في اليمن فالأحزاب السياسية تسعى إلى السلطة عن طريق الميليشيات.

الحزب السياسي في الدول الأخرى لديه رؤية تشمل الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وأما الحزب السياسي في اليمن فلا يملك هذه الرؤية -رغم أنه يدّعي ذلك- لأنه في تكوينه قبائلي، وممارساته قبائلية، وعقليته قبائلية، فإذا به يحصر نفسه على رؤية تقتصر على المجال الحيوي للحزب وأعضائه، فكأنه يختصر الوطن في حزبه ومنتسبيه فقط.

الأمين العام للحزب هو شيخ لكن بمسمى عصري، وأساليبه في إدارة الحزب تتطابق مع أساليب الشيوخ في إدارة شئون القبيلة؛ فكما يُرجِّح الشيخ مصالح قبيلته على المصلحة العليا للوطن، كذلك يفعل الأمين العام للحزب الذي يُرجِّح مصلحة حزبه على المصلحة العليا للوطن.

الشيخ تهمه حدود القبيلة، وما يحدث خارج حمى القبيلة فهذا ليس من شأنه، وكذا رئيس الحزب أو أمينه العام، لا يبالي بحدود الوطن وسلامة أراضيه، فما يهمه هو الرقعة الجغرافية التي يمتد عليها نفوذ حزبه، وأن يحافظ على القطعة التي بحوزته من الوطن، وأما التراب الوطني الذي يقع خارج دائرة سلطته فليس مسئولًا عنه، وهو ليس مستعدًا للنضال من أجل استعادته.

لعل الحزب الاشتراكي اليمني الأقرب إلى شكل الحزب السياسي بمفهومه المتعارف عليه في دول العالم، لكنه في مناسبات كثيرة، منها الحرب الأهلية في عام 1986، كشف عن ضحالة منظومته الحزبية، فإذا بالرفاق يتحولون إلى قبائل ماركسية متناحرة.

اليمني في العمق مهما تحضَّر وتمدَّن لا يستطيع أن يمارس السياسة بوصفها فن الممكن والديبلوماسية.. جذوره القبلية والمناطقية والمذهبية والسلالية تجعله في المواقف التاريخية الفاصلة يتراجع ألف خطوة إلى الوراء.

القبيلة هي تجمع للناس يجمعهم جد واحد أعلى، أو حلف قبلي يقوم بمثابة الجد الأعلى. وأما تعريف الحزب السياسي فهو: “مجموعة من الأفراد منظمين لاكتساب السلطة السياسية وممارستها”. وإذا قمنا بالمقارنة بين التعريفين، فإننا نلاحظ أن الأحزاب اليمنية أقرب إلى تعريف القبيلة من تعريف الحزب السياسي، فأعضاء الحزب السياسي في اليمن يجمعهم فرد واحد أعلى، ويمارسون نشاطهم السياسي كحلف قبلي مهمته التغلب على القبائل السياسية الأخرى!

الحزب السياسي اليمني مرتبط بزعيم الحزب، فإذا أدركه الأجل، أفل نجم الحزب وانفض عنه أعضاؤه، أو قد ينقسم إلى عدة تكوينات، وكل مكون سياسي يقوده شيخه السياسي، فكأن الحزب عشيرة انقسمت إلى عدة عشائر كما كان يحدث في الصحاري المترامية الأطراف.

هناك بيّنة واضحة استدل بها: لم تنجح الأحزاب السياسية اليمنية التي وصلت إلى السلطة في بناء الدولة.. لا الحزب الاشتراكي في الجنوب ولا حزب المؤتمر الشعبي العام الذي حكم في الشمال أولًا ثم الوطن كاملًا من بعد 1994 وحتى 2011.

الشعب بتكويناته الاجتماعية موجود، ولكن الدولة غير موجودة.. هناك عصبيات قبلية تتصارع على السلطة، وهذا الصراع القبلي الذي لم تنطفئ ناره أبدًا هو الذي وأد مشروع بناء الدولة في اليمن.

كان المؤمل بالطبع أن تؤدي الأحزاب السياسية رسالتها، وتبني الدولة ومؤسساتها، وتُنتج المواطن الموالي للدولة لا ذاك الموالي للقبيلة، ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن.

لاشك عندي أن العديد من زعماء اليمن توفرت لديهم حسن النوايا، والرغبة في تحويل الأمة من مجتمع قبلي إلى مجتمع مدني، إلا أن عوامل يصعب حصرها في هذا المقال حالت دون تحقيق هذه الأمنية التي تبدو اليوم بعيدة المنال أكثر من أيّ وقت آخر.

هل وضعنا العربة قبل الحصان؟ بمعنى أننا تسرعنا في إنشاء الأحزاب السياسية قبل أن نتأكد من أن الدولة اليمنية قد نشأت؟؟ أُرجح هذا الرأي!

ما الذي يمنع أن نُصحح هذا الوضع؟ أن نبدأ أولًا ببناء الدولة اليمنية، ثم لاحقًا نسمح للأحزاب بممارسة العمل السياسي والتنافس المشروع على السلطة.

وخلال مرحلة بناء الدولة اليمنية يجب أن تُجمِّد الأحزاب السياسية نشاطها، أو تحل نفسها، وتتبرع بما لديها من أصول مالية وعقارية لصالح الدولة.

تقديري أن مرحلة بناء الدولة في اليمن قد تستغرق على أقل تقدير حوالي 50 سنة.

بعد مرور 50 عامًا، أيّ في عام 2075 -إذا بدأنا من هذا العام 2025- فإنه يمكن السماح للأحزاب السياسية اليمنية بمعاودة نشاطها السياسي في صفوف الجماهير.

اليمن الآن بحاجة إلى دولة مركزية قوية، تبني مؤسسات الدولة بيدٍ من حديد، وتساهم عبر مشروعات اقتصادية ضخمة في تحويل السكان من بؤر قبلية متصارعة على الموارد الشحيحة إلى مجتمع مدني منصهر في كتلة بشرية واحدة ذات مصالح مشتركة.

اليمن الآن بحاجة إلى التركيز على الاقتصاد، استخراج النفط والغاز والمعادن، تنمية المنتجات الزراعية التي تجلب العملة الصعبة مثل البن، تشجيع المصانع وحمايتها وتوفير البنية التحتية اللازمة لاستمرارها وتطورها، تنويع مصادر الدخل القومي عبر السياحة والتجارة، وعلى الأحزاب السياسية اليمنية أن تأخذ إجازة لمدة خمسين عامًا مع الشكر الجزيل لها على جهودها غير الطيبة.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات