Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

رجل سوري اسمه عبدالفتاح الجندلي أقام علاقة مع زميلته الأمريكية في الجامعة، وأنجبا طفلًا من غير زواج، فقررا التنازل عنه وإعطاءه لأسرة تتبناه..

لم يكن هذا الأب الأحمق يعلم أنه يفرط في ثروة تقدر بسبعة مليارات دولار! كل ما رآه هو أن هذا الطفل سيشكل عبئًا على طموحه في إكمال دراسته الجامعية.

وهكذا ذهب هذا الطفل المنبوذ إلى والدين أمريكيين تبنياه وتكفلا بتربيته، ومن ثم حمل اسم عائلة (جوبز).

من كان يتوقع أن هذا الطفل سيكون له شأن عظيم في المستقبل؟! وهل كان من حسن طالع هذا الطفل أن ربته أسرة أمريكية؟؟ وهل كان والده العربي سيشجع الصبي على تحقيق طموحاته الجنونية؟؟ كل هذه الأسئلة تحتاج إلى تفحص أكثر شمولًا لا يسعها المقام هنا، ولكن بكلمة واحدة أجزم أن الأب الأمريكي (بول جوبز) اتسم بصفات تربوية ساهمت في أن تتفتح مواهب ابنه بالتبني إلى أقصى مدى ممكن، وقدم له الدعم بلا حدود، ولم يُسَفِّه التقلبات المزاجية الحادة للفتى، وينتقده لإطالته شعره ومشيه حافيًا وعاداته الغذائية المهووسة بالنظام النباتي.. هذا التفهم والتسامح والدعم اللا مشروط أحسب أنه الذي يصنع الفارق بين الثقافتين العربية والأمريكية.

ولد ستيف جوبز في عام 1955، ورأى أول آلة حاسبة مكتبية كبيرة وعمره بالكاد 13 سنة وانبهر بها، ومنذ هذه اللحظة فصاعدًا أخذ يبدي اهتمامًا متزايدًا بالآلات الحاسبة المتطورة التي هي من منظورنا الآن مجرد كومبيوترات بدائية، وخلال عشر سنوات أنجز ما لا يحلم به أيّ فتى آخر في مثل سنه.

لُقِّب ستيف جوبز بـ”سوبرمان التكنولوجيا” وهو كذلك فعلًا. وحينما نلقي نظرة شاملة على عمله نجد أنه الأب الحقيقي لكل الأجهزة التكنولوجية المتطورة التي نستخدمها اليوم، من الهواتف المحمولة التي نحملها في جيوبنا إلى اللابتوبات المحمولة في غرف نومنا ومكاتبنا. فلا يوجد إنسان على وجه الأرض لم يستفد من العمل الشاق الذي قام به ستيف جوبز.

ويمكن أن نلخص منجزاته في المجالات التالية:

1- صناعة الكومبيوتر الشخصي.

2- ابتكار نوع جديد من أفلام الرسوم المتحركة بالكمبيوتر.

3- اختراع جهاز الآيبود.

4- الهاتف الذكي الآيفون.

5- جهاز الآيباد (أحدث ثورة في قراءة الكتب الإلكترونية).

تحكي كارن بلومنتال (karen blumenthal) مؤلفة كتاب “ستيف جوبز والقصة المدهشة لمؤسس أبل” سيرة حياة هذا الملهم من الألف إلى الياء، مع شيء يسير من التدخل لتحليل شخصيته بين ثنايا الكتاب.

صدر الكتاب باللغة الإنجليزية عام 2012، أي بعد عام واحد من وفاة ستيف جوبز في عام 2011، وترجمه إلى اللغة العربية عبد المقصود عبد الكريم وصدرت الطبعة الأولى في العام نفسه، ونسختها الثانية عام 2024 عن مؤسسة هنداوي.

بحسب مؤلفة الكتاب أسس ستيف جوبز شركة أبل في جراج عائلته وهو بعمر عشرين عامًا، وأذهل العالم بالكمبيوتر الشخصي (أبل 2)، وفي عام 1980 طُرحت شركة أبل للكمبيوتر للاكتتاب العام، وقدرت قيمتها بمليار دولار، وامتلك هذا الفتى وهو بعمر 25 عامًا ثروة خيالية تزيد عن 218 مليون دولار، وهو رقم يعادل ميزانية بعض الدول النامية آنذاك.

ظهر اسم ستيف جوبز على 313 اختراعًا من اختراعات شركة أبل، وصار نجمًا من نجوم المجتمع تُضاهي شهرته شهرة نجوم السينما والموسيقى والرياضة.

قالت عنه مجلة فورتشن عام 2009:

“في عشر سنوات أعاد تنظيم ثلاث أسواق بشكل جذري ومربح -الموسيقى والسينما والتلفونات المحمولة- ونما تأثيره على صناعته الأصلية؛ صناعة الكومبيوتر.. لا عجب أن شهرته حلقت في آفاق العالم كله” ص 192.

لكن ما هو سر هذه الشخصية التي غيّرت العالم إلى ما هو عليه اليوم؟

نستنتج من المعلومات التي أوردتها كارن بلومنتال أن ستيف جوبز كان يحمل ميولًا روحية عميقة جدًا، وعلى ما يبدو اعتنق بوذية الزن.. فهو قد سافر في شبابه الغض إلى الهند بحثًا عن معلم روحي، وقد التقى به لاحقًا في أمريكا، وظلت له صلات قوية به. كما أنه في حياته الخاصة كان بوذيًا ملتزمًا ونباتيًا.. يقول ستيف جوبز:

“إذا أردت أن تنجز شيئًا ما ينبغي أن يكون لديك رؤية عميقة لا تحيد عنها ولا ترى شيئًا غيرها” ص 110.

وربما ساعدته اليوغا على الوصول إلى تكوين هذه الرؤى العميقة.

أحيانًا يقول لك شخص ما كلمة ولكنها تؤثر فيك مدى الحياة.. ولحسن حظ ستيف أنه سمع هذه الكلمة التي غيرت حياته في الوقت المناسب:

“قال لي شخص ما وأنا في السابعة عشرة أن أعيش كل يوم وكأنه الأخير، وأنني في يوم من الأيام سأكون مصيبًا”. ص 171.

جانب آخر من شخصيته يتعلق بميوله الإبداعية القوية وإحساسه الفني الرفيع.. ويبدو أنه نجح في تسخير طاقته الإبداعية المتدفقة من أجل إنتاج تكنولوجيا مبتكرة وتحمل بصمات إبداعية مذهلة. يقول ستيف جوبز:

“أريد لشركة أبل أن تقف في نقطة التقاء الفن والعلم” ص103.

وكما نلاحظ هذه رؤية غريبة إلى حد بعيد، فالعلم مجال عقلاني صارم، ولا يأبه بتخيّلات أهل الفن وشطحاتهم وعواطفهم المشبوبة المنافية للمنطق.

شبه مؤكد أن ستيف جوبز حمل جينات الإبداع من جهة أبيه البيولوجي عبدالفتاح الجندلي، وهذا عندما نتتبع مهن أقاربه؛ فابنته الكبرى (ليزا) تخرجت من هارفرد وصارت كاتبة، وأخته منى سيمبسون شقيقته بالدم روائية وعملت في المجلة الأدبية باريس ريفيو.

من أسرته الأمريكية حصل على التكوين العلمي والبيئة الصالحة لمساره العملي في مجال تكنولوجيا الأجهزة الالكترونية المتقدمة.

هذا المزيج النادر من الفن والعلم، الذي جاء من جهتيّ جيناته الوراثية والبيئة الملائمة لمواهبه، أدى إلى ظهور هذا الفتى الذهبي الذي ترك بصمته الخالدة على كوكب الأرض.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات