وجدي الأهدل*
أنصح من تمر عيناه على هذه السطور أن يبادر للحصول على كتاب “مسرات صغيرة” للفيلسوف الإنجليزي آلان دو بوتون، وقراءته على الفور.
ترجم الكتاب إلى العربية الحارث النبهان، وصدر عن دار التنوير ببيروت عام 2023، فهو كتابٌ لا تُؤجل قراءته، ولو اضطر المرء إلى مقاطعة جميع أنشطته والبدء به.
لماذا أوصي بشدة بالبحث عن هذا الكتاب والتهامه في جلسة واحدة؟ لأنني لاحظتُ أننا في وقتنا الحاضر نعيش في منطقة رمادية من اللا سعادة.. لسنا تعساء، ولكننا أيضًا لسنا سعداء.
ذهبت راحة البال مع الأجداد أليس كذلك؟ الإنسان المعاصر متوتر وقلق ومُنغص العيش، والهموم تحاصره من كل اتجاه، إنه إنسان متحضر أضاع الحس الفطري بالسعادة في زحمة الحياة وحُمّى كسب المكانة وجني الأموال، فغدا مشوشًا ونسي كيف يكون سعيدًا.
إنها مفارقة غريبة: البشر القدماء كانوا يعرفون الطرق الصحيحة المؤدية إلى السعادة فعاشوا حياة سعيدة، وأما نحن فيبدو أننا قد فقدنا هذه الخبرة (البسيطة) وأضعنا الطريق!
ينبهنا آلان دو بوتون إلى هذه الحقيقة، ويدعونا إلى اكتشاف المسرات الصغيرة وجمعها كما يجمع الطفل ألعابه ويستمتع بها، فالطفل يلعب ويخلق جو السعادة لنفسه من خلال ما هو موجود لديه، ولن يضع رأسه على كفه يائسًا حزينًا لأن ما لديه من الألعاب قليل أو ليس باهظ الثمن.. لأنه في هذه المرحلة العمرية لا يحتاج إلى مقارنة نفسه بأحد، فهو مكتفٍ بما لديه، وقادر على اجتناء السعادة من ذاته.
بطبيعة الحال يكبر الإنسان ويفقد هذه البراءة، خصوصًا لمن يولد ويعيش في المدينة، فلا يعود مكتفيًا بما لديه ويطمع في المزيد، وهذا المسعى يقوده دون أن يدري إلى تراكم مشاعر الشقاء.
يلخص آلان دو بوتون الغرض من كتابه بقوله:
“في هذا الكتاب، يضع كل فصل واحدة من لحظات المتعة تلك تحت العدسة المكبرة كي يكتشف ما يجري حقًا فيها، وما يجعلها تمس أرواحنا وتحركها، فتجعلنا نبتسم. هذا بحث عن معنى أكبر قابع سرًا في كل ما نجده لطيفًا. يتضح لنا أن المسرات الصغيرة ليست صغيرة على الإطلاق: إنها نقاط دخول إلى أعظم موضوعات حياتنا شأنًا. قد يبدو شيئا من الغرابة -أول الأمر- القول إننا لا نعرف تلقائيًا، ولا على نحو طبيعي، كيف نُمتع أنفسنا. لكن السعي إلى المسرة مهارة نحن في حاجة إلى تعلمها؛ وهو أمر نستطيع أن نتقنه أكثر فأكثر. يبدأ ذلك بالمسرات الصغيرة” ص 9.
يورد آلان دو بوتون 52 مسرة صغيرة، أيّ بعدد أسابيع السنة. وبالطبع تتفاوت هذه المسرات الصغيرة من شخص لآخر، ويمكن أن يزيد العدد إلى أكثر من ذلك بكثير، إذا اهتم الإنسان بإدخال السرور إلى مجرى حياته اليومية، وحارب من أجل ذلك.
مع الأسف صرنا نعيش في حقبة تتطلب النضال اليومي من أجل انتزاع تلك المسرات التي حرمنا منها بسبب روتين الحياة في المدن العصرية.
أيضًا هذه المسرات هي ذات طابع شخصي، وليست مفصلة على قياس الجميع، فهناك أمور تثير المتعة لديّ، ولكنها قد لا تحرك أيّ شعور بالسرور لدى شخص آخر.
إذًا على الإنسان كما قال بوتون أن يبذل جهدًا من أجل اكتشاف مسراته الصغيرة.
ومن باب ضرب المثل يذكر بوتون المسرات الصغيرة التي تستجيب لها نفسه وينشرح لها صدره، ومنها مثلًا المسرة رقم 12 وهي عن “سحر الأبقار”! ولننظر كيف عبر عن سروره بالبقر:
“_ إذا نظرت إلى بقرة مدة خمس دقائق، فسوف يستقر في نفسك جزء صغير من صفائها وهدوئها.
_ البقرة لا تُقيِّمك، ولا تحكم عليك: بالنسبة إليها، أنت ما أنت.
_ لا تؤمن الأبقار بالسياسة.
_ لا تعاني الأبقار قلق المكانة الاجتماعية.
_ لا تبالي الأبقار برأيك فيها.
_ لا تفكر الأبقار طويلًا في مشكلاتها.
_ ما من شيء تفعله يستطيع أن يُسلِّي بقرة أو يؤثر فيها.
_ الأبقار شديدة التركيز على اللحظة الراهنة.
_ النظر إلى الأبقار يمكن أن يجعل نهارك جيدًا” ص 49-50.
متأكد أن القارئ سيتفاجأ بهذا النوع من المسرات، وربما لن تكون متاحة له بحكم إقامته في المدينة، ولكن كما سبقت الإشارة يمكن لكل فرد البحث عن المسرات الصغيرة المتيسرة له ضمن بيئته.
من المسرات المجانية التي بمستطاع كل إنسان الحصول عليها كل يوم هي رؤية النجوم، وبرغم بساطة هذه المسرة الصغيرة التي تحمل الرقم 3 في كتاب بوتون، فإن الملايين من سكان المدن محرومون منها، أولًا بسبب الأضواء الصناعية التي يطمس سطوعها وميض النجوم، وثانيًا لأن لا أحد من سكان المدن يخطر بباله تخصيص جزء من وقته للتحديق في السماء ونجومها المتلألئة.
لن أسرد المزيد من المسرات الصغيرة، لكيلا أفسد على القارئ متعة قراءة هذا الكتاب الجميل، فمتعة قراءته يمكن إضافتها أيضًا إلى مسراتنا الصغيرة.
آلان بوتون هو فيلسوف إنجليزي ولد في سويسرا عام 1969، درس التاريخ في جامعة كامبريدج، ونال الماجستير من جامعة الملك بلندن. من مؤلفاته الفكرية كتاب “مقالات في الحب” بيعت منه مليونا نسخة، وكتاب “قلق السعي إلى المكانة” وهو الكتاب الأكثر شهرة له في اللسان العربي، وكتاب “كيف يمكن لبروست أن يغير حياتك”، كما أن له مؤلفات روائية، واهتمامات متنوعة جدًا، فقد عمل لفترة مقدم برامج في التلفزيون السويسري، ويمتلك شركة إنتاج خاصة به “سينيكا للإنتاج”، وشارك في تأسيس منظمة “مدرسة الحياة” وهي منظمة عالمية تهدف إلى مساعدة الناس في معالجة القضايا المتعلقة بالعمل والعلاقات الاجتماعية، ولها فروع في احدى عشر مدينة حول العالم، كما أسس مشروع “البنيان الحي” وتقوم فكرته على تأجير بيوت تستغل للعطل فقط، وسواها من المشاريع المبتكرة.
يختم آلان بوتون كتابه الممتع “مسرات صغيرة” بإيراد 52 مسرة صغيرة جدًا، وهي مسرات بعضها مألوف لنا وبعضها غريب نوعًا ما، ولعله أراد أن يبرهن لنا أن هذا الطريق ما أن نسلكه حتى يتسع أكثر فأكثر:
“ما إن نبدأ البحث عن المسرات الصغيرة حتى تبدو لنا الحياة ممتلئة بها. ليست الغاية أن نكتفي برؤيتها، أو بملاحظتها، بل أن نفهم ما يجعلنا معجبين بها، فهذا ما يفضي إلى تعميق ما تمنحنا إياه من رضا وإشباع. وبعد ذلك، يكون علينا أن نفسح لها في حياتنا حيزًا أكثر اتساعًا وأطول دوامًا”.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات