Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

عندما ينوي الفتى تبديد الظلام وإشعال شمعة، ويفعلها وينشر نصوصه الأولى، فإنه عاجلًا أو آجلًا ستطرق سمعه ملاحظة مبهمة، ملتبسة المعنى، تحضه على كتابة (أدب إنساني) يترك أثرًا عميقًا في النفوس البشرية.

ولكن كيف يهتدي الأديب المبتدئ إلى هذا الطريق الملكي الذي سلكه الأدباء الخالدون من قبله؟

معظم كتب النقد تركز على الجوانب الفنية، وهذا هو دورها في المقام الأول، وعلى الأديب الراغب في التمكن من حرفته وإجادة استخدام أدواته قراءتها واستيعابها.

إنما تبقى مسألة (أنسنة الكتابة الإبداعية) غير واردة على النحو؛ لأن المنظومة النقدية قد لا تلتفت إلى هذه الفروق الدقيقة.

قد يغوص الأديب الشاب في بحار من النظريات والمدارس النقدية ولا ينال مبتغاه، ويظل السؤال عالقًا في ذهنه: “ما هي الخطوات العملية التي عليه القيام بها ليكتب أدبًا إنسانيًا؟”.

الأدب الإنساني يبدأ أولًا من (الفكرة)، أيّ انتقاء فكرة لها ارتباط بمعاناة الإنسان. وينبغي أن تكون هذه المعاناة حقيقية وليست من صنع العقل، ويُفضل أن تكون مشتركة بين أكبر عدد ممكن من البشر. وإنه لمن السخف أن يُراوح الكاتب في الكتابة عن ذاته وكأنه مركز الكون.

يولد الكاتب الإنساني عندما يتنازل برضاه عن الأفكار المتعلقة بذاته، وينفتح على الأفكار المتعلقة بذوات أخرى.

الأدب الإنساني يسري مفعوله في جميع عناصر الكتابة الإبداعية، فمن التناقض أن يُعالج الكاتب فكرة تتعلق بمآسي الحروب والزلازل والأوبئة بلغة شعرية عالية، فالسياق لا يُناسب هذه اللغة النخبوية، والمناسب استعمال لغة مبسطة خالية من التعقيد.

قد يتساءل واحد: “هل توجد لغة غير إنسانية؟”، والجواب هو نعم، بل هي الأكثر شيوعًا لدى الأدباء الشباب!

كمثال للتوضيح نشير إلى أن (لغة) المقامات الأدبية لا تنتمي للأدب الإنساني، إذ هي (لغة) تقوم على السجع ورصف مفردات معجمية غير مألوفة، فهي (لغة) فيها تصنع وتكلف، وكأنها نوع من أنواع الألعاب العقلية التي يبرع فيها الأذكياء، ولذلك مات هذا النوع الأدبي ولم تكتب له الحياة.

كذلك عنصر (الحدث) يمكن أن يكون إنسانيًا أو لا يكون، ومعنى أنسنة (الحدث) ألا يكون مختلقًا لم يحدث قط، بل مستمدًا من وقائع حقيقية.. فإذا كتب مؤلف عن تعرض مدينة لهجوم كائنات فضائية فهذه قصة مفتعلة وليست قصة إنسانية. وأما إذا كتب أن هناك مدينة تعرضت لزلزال مدمر، وأورد تفاصيل واقعية تؤكد مصداقية قصته، فهذه قصة إنسانية بامتياز.

وفي عنصر (البناء) نجد أن البناء نوعان: بناء إنساني وبناء غير إنساني. عندما يقوم المؤلف بصب مادته في قوالب جاهزة، أو يستنسخ مخططًا سرديًا شائعًا فهذا بناء غير إنساني، بناء آلي، وكأن النص بنته الآلة، وقد ظهر مؤخرًا أن الذكاء الاصطناعي غدا بإمكانه تأليف نصوص قصصية ومسرحية وروائية بالاعتماد على البناء النمطي لهذه النصوص.

البناء الإنساني لا يخضع لقوالب جاهزة، ولا يقبل بمخطط سردي مستهلك، إنه يَبني متناغمًا مع المادة التي تفرض شكلها وقالبها الخاص. وهذا يتطلب أن يمتلك المؤلف حساسية فنية عالية ليتمكن من كسر القوالب المعتادة، وتشكيل قالب لم يسبق له مثيل.. حتى ولو كان هذا القالب تعتوره العيوب، ومفتقرًا إلى الكمال الفني الذي ينشده النقاد.

عنصر (الشخصية) فيه أيضًا هذه الثنائية (الإنساني وغير الإنساني)، وقد يظن البعض أن الشخصية الإنسانية هي الشخصية الأخلاقية الإيجابية، ولكن هذا التصور غير صحيح، إذ يمكن للمؤلف الأصيل أن يجعل من قاطع طريق شخصية إنسانية عظيمة! السر يكمن في معمل المؤلف، فالشخصية غير الإنسانية هي شخصية شبحية من إنتاج العقل، وليس لها امتداد في الواقع، فإذا هي تأتي باهتة، كرتونية، مسطحة، خالية من الأبعاد والعمق، تتكلم بلسان المؤلف لأنها بلا لسان، وتفكر بأفكار المؤلف لأنها بلا دماغ، وعواطفها مستعارة من المؤلف لأنها بلا قلب.

وعكسها الشخصية الإنسانية التي لها نظير من الواقع، فهي مأخوذة بحذافيرها من شخصية بشرية حقيقية من لحم ودم، والمؤلف يستطيع إذا سُئل عن إحدى شخصياته أن يقول إنها مقتبسة من فلان أو فلانة، وأقرب مثال نستشهد به شخصية “سعيد مهران” في رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ، فهذه الشخصية الروائية مستمدة من شخص حقيقي هو السفاح (محمود أمين سليمان) الذي شغلت جرائمه الرأي العام المصري في عام 1960.

علامة الشخصية الإنسانية أنها تتكلم بلسانها هي لا بلسان المؤلف، وتفكر بعقلها هي، وتشعر بقلبها ولا تستعير شيئًا من خارجها، فهي شخصية مستقلة تمام الاستقلال عن مؤلفها.

وعندما ننتقل إلى عنصر (الوصف) نجد أن الوصف غير الإنساني هو الذي يبتكره المؤلف من رأسه، فلا يتحرى الدقة، ولا الأمانة الفنية، فيأتي الوصف مشوهًا عاريًا من الحقيقة، وفيه استغفال للقارئ، وصورة من صور الغش الفني.

(الوصف) الإنساني يعني أن يتحرى المؤلف عن المكان الذي يصفه، وعن الأشخاص الذين يصفهم، فهو يبذل جهدًا في استطلاع الأمكنة، وفي حصافة الملاحظة، وفي دقة الوصف. وتظهر مهارة المؤلف في كتابة وصف حي ينبض بالحياة عن المكان الذي تجري فيه أحداث قصته، وهيأة شخصياته وملابسها وزينتها التي قد تشير إلى مكانتها الاجتماعية.

إذا أراد مؤلف أن يكتب مثلًا قصة عن النازحين اليمنيين في مخيم أوبخ بدولة جيبوتي، فإنه من البديهي أن يصف المخيم ويرسم لوحة بالكلمات توضح لنا نوعية الحياة هناك.

المؤلف غير الإنساني الذي لا يبالي بالأمانة الفنية، سوف يقدم أوصافًا للمخيم من عقله، لا من الواقع الحقيقي، وبهذا هو يغش القراء، لأنه لم يضع قدمًا هناك، ولا يعرف شيئًا عن معاناة النازحين اليمنيين في ذلك المكان.

ماذا يفعل المؤلف الإنساني إذا أراد كتابة قصة عن أولئك البؤساء في مخيم أوبخ؟ الحل الصحيح هو أن يسافر إلى هناك ويُعايش عن كثب أوضاعهم. فإن كانت ميزانيته لا تسمح، فالخيار الثاني هو أن يبحث عن يمنيين عائدين من مخيم أوبخ ويلتقي بهم، ويسمع منهم مباشرة، ويستعين بآلة تسجيل أو يدون كل كلمة يقولونها. فإذا لم يتيسر له ذلك، فلا يبقى أمامه سوى جمع المعلومات المتاحة عن مخيم أوبخ، مثل معرفة الموقع الجغرافي هل هو على الشاطئ أو في أعماق الصحراء، هل هو قريب من الأماكن الحضرية أم في موقع ناء، وهل تتوفر فيه الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء، وهل ثمة خدمات صحية وأطباء، وهل توجد متاجر تقدم أبسط الاحتياجات اليومية للنازحين، وهل الطرق الموصلة للمخيم مسفلتة أم ترابية وعرة، هل يعانون من العقارب والحيات، وما إلى ذلك من التفاصيل التي تعطي للقارئ صورة صادقة وليست مزيفة.

هذا الجهد والساعات الطويلة من العمل، وربما النفقات المالية التي يتكبدها المؤلف لكتابة قصة واحدة، هو ما يجعله يستحق عن جدارة لقب الكاتب صاحب المؤلفات الأدبية الإنسانية.

ننقل إلى عنصر (الحبكة) ونتساءل هل هناك حبكة إنسانية وحبكة غير إنسانية؟ الجواب قطعًا نعم. الحبكة الإنسانية هي التي تتمحور حول عقدة نفسية، مثل عقدة أوديب أو عقدة النقص أو عقدة الذنب أو عقدة الجوع، وسواها من العقد المعروفة أو المجهولة التي قد يعاني منها إنسان ما أو شعب ما.

وهذه العقدة النفسية هي التي تُسيِّر الحبكة وتُحدد مساراتها، والروائي العبقري هو الذي يَبْسُطُ العقدة في البداية والوسط، ثم يضع حلًا لها في النهاية.

بالنسبة للمؤلف غير الإنساني فإن حبكته تخلو من العقدة النفسية أساسًا، فيصنع حبكة عشوائية لا هدف منها، وتُفضي إلى نتائج اعتباطية، فهي حبكة ميلودرامية مفتعلة من أولها لآخرها.

ونضرب مثلًا بعقدة (كره البشر) التي كان يعاني منها النبي يونس عليه السلام، فهذه العقدة جعلته يفشل في مهمته، فكان الحل أن يُمضي بعض الوقت في بطن الحوت ليُشفى من عقدته تلك، وهو ما حدث فعلًا، فخرج من بطن الحوت محبًا للبشر، بعد العزلة الرهيبة التي عانى منها.

نحن أيضًا – المؤلفون – نحتاج للعزلة أكثر من غيرنا، لا بهدف الصفاء الذهني وحده، ولكن لهدف أكثر سموًا وهو أن نحب البشر أكثر.

ونأتي أخيرًا إلى (الأسلوب) ونوضح أن هناك أسلوبًا إنسانيًا وأسلوبًا غير إنساني. الأسلوب الإنساني يعني أن يمتلك المؤلف أسلوبه الشخصي الخاص به، غير المستعار من أحد، الذي لا يشبه أسلوب أيّ أديب مجايل له أو سابق لعصره، وهذه المهمة من أشق المهام التي يمكن أن نُطالب بها أيّ مؤلف.. فليس من اليسير أن يتوصل حامل القلم إلى توقيعه المتفرد الذي يمكن تمييزه عن ملايين التوقيعات الأخرى.

وأما الأسلوب غير الإنساني فهو المستعار من أسلوب أديب آخر.. ونجد هذه الظاهرة ملحوظة بالذات عند الأدباء الشبان، فتجد هذا يقلد أسلوب بورخيس أو تشيخوف في كتابة القصة، وذاك يقلد أسلوب ماركيز أو كافكا في كتابة الرواية ونحو ذلك.

وحتمًا يبدأ الأديب الشاب مسيرته الأدبية مقلدًا نماذج أسلوبية لأدباء عظام، لكنه بالتدريج يتخلص من التقليد ويطور أسلوبه الخاص، وهذا يعني أن ينبع أسلوبه من روحه التي لا تشبه أيّ روح أخرى في هذا الوجود، وحينها فقط يمكن أن يكتب بأسلوب إنساني، أيّ بأسلوب يشكل إضافة للروح البشرية ككل.

* روائي وكاتب

   
 
إعلان

تعليقات