Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

يُعنون الكاتب المسرحي الأمريكي الشهير آرثر ميلر نوفيلاه بـ”فتاة عادية”، وهذا العمل المُحكم مثل رداء فصّله خياط بارع، يتحدث عن (جانيس) التي على الرغم من ماضيها الماركسي، فإن المؤلف يتعاطف معها ويصدر حكمًا ببراءتها من تهمة معاداة بلادها، وهي التهمة التي لاحقت الكثير من المثقفين والمشاهير في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وشكلت كابوسًا جثم على صدور الملايين من الأمريكان.

(جانيس) فتاة يهودية ثرية مثقفة تعيش في نيويورك-برودواي، أسرتها هاجرت من بولندا، وتزامن ميلادها مع بدايات القرن العشرين، وكما درجت العادة في ذلك الزمن جرفها وسط المثقفين إلى اليسار، وتزوجت من بائع كتب شيوعي، وبطريقة ما أصبحت مناضلة يسارية، تحضر الاجتماعات الحزبية، وصار ستالين هو بطلها والمنقذ المنتظر للعالم.

اللحظة الحرجة في انتمائها السياسي أتت عندما عقد ستالين معاهدة عدم اعتداء مع هتلر. بالنسبة لها كيهودية فإن ستالين ارتكب أعظم خطيئة، ووضع يده في يد الشيطان، وبذر هذا ظلالًا من الشك في نفسها، وهكذا حطم زواجها ذلك الحدث السياسي البعيد جدًا عن مسكنها، وأدى إلى تفكك علاقتها مع زوجها (سام) الذي ظل شيوعيًا صلبًا، ويدافع بشراسة عن ستالين، ويرى أن من حقه أن يُراعي مصالح شعبه.

“فتاة عادية” نوفيلا تقع في حوالي خمسين صفحة، أشبه ما تكون بتقرير عن فتاة أمريكية منذ ميلادها وحتى اللحظة التي تنادي فيها الموت ليأتي ويقبض روحها.

هذا النوع السردي له خصائص مميزة، وله شعبيته لدى القراء في الغرب، فهو سرد شديد الإيجاز، مكثف ومُقطر، ويُركز على هدف محدد لا يحيد عنه قيد أنملة، وغالبًا ما يكون هذا الهدف شخصية واحدة تكون مركز العمل، ويتم الاستغناء عن كافة العناصر السردية الأخرى، والتضحية بمسارات خصبة، لغرض تحقيق أثر فني لا تشتته أو تشوبه شائبة.

آرثر ميلر بهذه النوفيلا يحجز له مكانًا بين عباقرة الأدب، ويطرح نفسه كأستاذ عظيم في فن كتابة النوفيلا.

(جانيس) هي النسخة الأنثوية من آرثر ميلر! أو بتعبير أدق، لقد روى سيرته الذاتية متخذًا صورة أنثى.

آرثر ميلر هو أيضًا ينحدر من أسرة يهودية هاجرت من بولندا إلى أمريكا، وهو مثل جانيس انتمى إلى اليسار الأمريكي، وتعاطف مع الاتحاد السوفيتي العدو اللدود لأمريكا.

صحيح أن جانيس لم تتعرض للمساءلة القانونية بسبب انتمائها السياسي، ولكن مُوجدها آرثر ميلر تعرض للتحقيق من قبل لجنة مكارثي سيئة السمعة، وسجل موقفًا تاريخيًا حين رفض الوشاية بزملائه اليساريين ولم يذكر اسم أحد منهم.

هكذا نلاحظ هذا التلازم بين الإبداع العظيم والموقف الإنساني النبيل، فالمبدع الحقيقي يعلم في قرارة نفسه أن عليه واجبًا أخلاقيًا تجاه مجتمعه الحاضر والأجيال القادمة، ولذلك هو لا يخسر أيّ موقف أخلاقي، بل يكابد ويعاني ولو اضطر إلى دفع ثمن باهظ.

نفى آرثر ميلر نفسه طوعيًا إلى بريطانيا، ثم عاد إلى بلاده بعد أن أُلغيت تلك اللجنة وظهر مدى تجنيها على المثقفين الأمريكان.

تنتمي “فتاة عادية” إلى الأدب الإنساني بأوضح صوره، فآرثر ميلر يغوص بعمق مدهش في خبايا النفس البشرية، ويلتقط أدق خلجات الروح وخواطرها ومخاوفها وآمالها وأشواقها.

إن هذا الصنيع ليس سهلًا البتة، لأنه ليس التقاطًا لحالة فردية، كما قد يفعل الكاتب العادي، ولكنه التقاط لحالة عامة مرموز لها بحالة فردية، فالفتاة جانيس هي نموذج بالغ الرهافة والبراعة للنخبة الثقافية الأمريكية في القرن العشرين.

المثقفون الأمريكان في القرن الماضي مثلهم مثل سائر النخب المثقفة في العالم جذبتهم الأفكار اليسارية، لأن طموحهم الحقيقي هو إقامة عالم مثالي تسوده العدالة الاجتماعية.

لاحقًا تراجع العديد من المثقفين في أمريكا وسواها عن ميولهم اليسارية، ورأوا فيها نوعًا من المراهقة السياسية، وانتابتهم مشاعر الذنب.

قلة نادرة بقت وفية لميولها اليسارية مثل المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، ولكن الأغلبية سجلت بطريقة أو بأخرى تراجعها عن معتقداتها السابقة.

يمكن المجازفة بالقول إن نوفيلا “فتاة عادية” التي أصدرها آرثر ميلر عام 1992، وهو يدنو من الثمانين هي الكلمة الفصل حول توجهاته السياسية، التي أثارت الشبهات حوله في الماضي، إنه لا يدين نفسه، لا يُنافق مُدعيًا مشاعر ذنب مبرحة، إنه بكل بساطة يقول إنها (فترة عادية) من حياته، ولا داعي لإثارة الكثير من الزوابع حولها.

الانتماء إلى اليسار في حقبة الحرب الباردة كان يبدو كموضة سادت العالم كله، ولكن آرثر ميلر يتجاوز هذا الطرح السطحي، ويوضح دون لبس أن الحالة اليسارية هي تركيبة تؤثر في النفس وتترك أثرًا لا يمحى، تجعل صاحبها فارسًا نبيلًا في زمن متوحش. وأدناه حوار بين جانيس وشقيقها هيرمان الذي كان يحاول إقناعها بتوظيف ميراثها في شراء العقارات الرخيصة:

“لماذا لا تجيئين معي ونؤسس شركة. المدن مليئة بالفرص.. يمكن أن ندفع عشرة.. خمسة عشر بالمائة ونمتلك مبنى. نحصل على قرض لتحسينه ثم نرفع الإيجار كما يحلو لكِ لتصل أرباحك إلى أكثر من خمسين بالمائة”.

ترد عليه جانيس:

“وماذا يحدث بالنسبة لسكان تلك الأبنية؟”.

“يدفعون الإيجار الجديد المرتفع أو فليذهبوا إلى الجحيم ليعيشوا في حدود إمكانياتهم.. إنه الاقتصاد يا جانيس، البلد يتحرك نحو أكبر ازدهار.. اصعدي إلى القارب واخرجي من هذه المزبلة.. أنا الآن في الثالثة والستين يا بنيتي، ومع ذلك أشعر بأنني رائع.. مذهل.. ولكن ماذا عنك؟”.

ترد جانيس:

“أتوقع أن أكون سعيدة.. ولكنني لست رائعة.. لست مذهلة حتى الآن.. ومع ذلك لن تأخذ نقودي لتطرد الناس إلى الشوارع.. آسفة يا عزيزي”ص35.

بهذا الحوار الدال يحسم آرثر ميلر موقفه من شبابه اليساري: لن نكون جميعًا مجرد انتهازيين جشعين يبنون ثرواتهم وسعادتهم على حساب الآخرين.

هذه النوفيلا هي بمثابة رد متأخر ولكمة محكمة التسديد إلى فك جوزيف مكارثي وأمثاله من المتطرفين اليمينيين، الذين أرادوا أن تصبح أمريكا مجرد شركة تحقق أعلى معدلات الربحية، وتضرب عرض الحائط بأيّ اعتبارات إنسانية.

عاش آرثر ميلر (1915-2005) في قرن مليء بالحوادث الجسام، وشارك بقلمه في الدفاع عن القيم الإنسانية السامية التي لا تتغير بتغيّر الدهور.

ترجم نوفيلا “فتاة عادية” إلى العربية طلعت الشايب، وصدرت طبعتها الأولى عام 1998، وطبعتها الثانية عام 2023 عن مؤسسة هنداوي بالقاهرة.

 * كاتب وروائي يمني.

   
 
إعلان

تعليقات