Accessibility links

إعلان
إعلان

عبدالباري طاهر*

“خطاب التمييز في الأمثال العربية”، أطروحة دكتوراه للباحث محمد فايد أحمد عامر البكري.

كثيرة هي رسائل الدكتوراه في اليمن والوطن العربي، ولكن القليل منها تقدم زادًا معرفيًّا، ورؤية عميقة للحياة، وقراءة مغايرة ومختلفة للسائد والمتداول في حياتنا.

كثيرًا ما ردد النقاد أن القصيدة الرائعة هي التي تُحدث بعد قراءتها تغييرًا فيك. بعد قراءة المقدمة، والإطار النظري، والفصل الأول من الأطروحة شعرتُ حقيقةً بتغير هائل، فالرسالة المهمة تضع كل معارفنا، واعتقاداتنا، وأمثالنا، وحكمنا قيد المساءلة والنقد.

تحفر الرسالة عميقًا في دراسة الخطاب، ونقد المعرفة، وكشف عورات المعارف اليقينية المطلقة. يقرأ الباحث بدقة وعرفان التمييز في المعارف والتخصصات.

تقع الأطروحة في 344 صفحة بالقطع الكبير، وتشتمل على ملخص في صفحتين، وموضوع بعنوان “عتبة المعنى” للفرق بين المدرس والمعلم، ترجمة الدكتور عبدالوهاب المقالح، وعتبة أخرى عن “تحليل اللغة”، لميشيل فوكو، إضافةً إلى الإهداء إلى عبدالرحمن البكري، وإلى أروى أحمد، ورسالة تقدير وامتنان.

أما قائمة المحتويات، فتشتمل على المقدمة، وتمهيد، وخمسة فصول، وخاتمة، وقائمة المصادر والمراجع، وكل فصل من الفصول يشتمل على عدة عناوين.

المشرف الرئيس على الرسالة الدكتور عبدالعزيز المقالح، والمشرف المشارك هو الدكتور أحمد صالح غازي.

تعودت منذ أمد عندما يقع الكتاب في يدي، وأعد نفسي للقراءة، أن أمر أولاً على العنوان، والمؤلف، وأهتم أكثر بالموضوعات، ثم المصادر والمراجع؛ لأنها تحدد طبيعة الكتاب، واختيارات المؤلف، ومآتيه، ومدى جدية المؤلف، والاهتمام، والتعب، والتنقيب، وسعة الاطلاع، فالمصادر والمراجع في هذه الرسالة تصل إلى ثلاثمئة وواحد وسبعين مصدرًا ومرجعًا، في صدارتها الكتب المقدسة: العهدين: القديم، والجديد، والقرآن الكريم، بالإضافة إلى مجلات، ودوريات، وبحوث.

في التوطئة، يدرس الباحث ما يشهده العالم من صراعات، التفاتًا واضحًا لدراسة الخطاب؛ لاقتضاء التحكم بالمتصارعين، والهيمنة على ذواتهم، وتشكيل تصوراتهم.

ويرى أن الخطاب معترك المصالح، والأهواء، والرغبات، والتطلعات، والأطماع، والمطامح، والمواقف، والقيم، والأفكار، ويشير محقًا إلى اختراق الخطاب الحدود بين الإنتاج العلمي، والفني، والأدبي، والقانوني، والتقني، بمعنى تغطيته مختلف جوانب المعرفة والنشاط، فالخطاب يخضع معارفنا، ولا سيما السائدة، للمساءلة، والنقد، والتحليل باستمرار؛ لتغيير نُظُم التفكير، أو تفسير علاقتنا بالأشياء.

وموضوع الدراسة بحث في التصورات التمييزية. فكل خطاب سلطة، وكل سلطة تستغل المعرفة الجاهزة كتبرير لنفسها، ويحدد ما يحتاج لدراسة أكاديمية أن تحاول النهوض به. جرى وسم الموضوع بـ “خطاب التمييز في الأمثال العربية”، ويشير الباحث إلى “تتبع كيفية استغلال خطاب التمييز للمعرفة الجاهزة المنسوبة إلى الأمثال. والواقع أن التمييز في الأمثال هو الأكثر عمقًا وتفشيًا وتجذرًا؛ بحكم صلته بمختلف المستويات الشعبية، وبالأخص في مجتمع أمي.

ويؤكد الدكتور على بحث الدراسة نوع المعارف التي يمكن أن تستغلها “السُّلَط”، وكيف يمكن أن تُبنى تلك المعارف، وكيف يجري تجهيزها، وترسيمها، وتعميمها.

يخضع كل المعارف الجاهزة للمساءلة والنقد؛ لمعرفة مدى معقوليتها، وصلاحيتها للواقع. يتناول الباحث أسباب اختيار الموضوع بقراءة حالة التمييز التي تسود الحياة العامة في الأقوال والأفعال، وتغمر مختلف مناحي الحياة، وكأنها حتمية تاريخية؛ موضحًا أسباب اختيار خطاب التمييز، خصوصًا الأمثال الموظفة ككمائن للسُّلَط، والارتهان لماضويتها يمثل انفصامًا مع الواقع.

يدرس مشكلة الدراسة المكرسة لمحاولة فهم تقبل التمييز، وتمثله، والتباهي به، وظن بداهته، وتنشئة الأطفال ببناء ترتيبات وأدوار اجتماعية، وتنميطات سلوكية، ويوزع تطلعات هذه الدراسة على عدد من الأسئلة.

ما مفهوم خطاب التمييز؟ كيف ينشط هذا الخطاب؟ ما إمكانية تخفيه في المعارف الجاهزة والسائدة والشائعة؟ ما طبيعة المعرفة المنسوبة للأمثال؟ كيف بنيت تلكم المعرفة؟ ما مدى توفرها على إمكانات الاستغلال؟ ومن أين جاءت المعرفة التمييزية؟ وكيف يجري تبديهها وتجهيزها؟ كيف صارت شائعة متداولة؟

ويتساءل عن سريان التمييز في الأدب تحت ترسيمات المعرفة المدرسية، وإكراهاتها، واستمرار العمل على تنميط معارفنا، وتحويلها إلى تصورات عامة تحمله عبر الأجيال كمعرفة أدبية.

ويحدد أهداف الدراسة بأن تكون إسهامًا في رفع مستوى الوعي بكيفية هيمنة الخطاب في اللا وعي من خلال الوثوق بالمعرفة السائدة والشائعة.

ويشير إلى التطلع، وفق شروط الخطاب وفق مفهوم الخطاب لدى ميشيل فوكو، إلى تحقيق هدف عام، وهو الإسهام في كشف كيفيات استغلال خطاب التمييز للمعرفة المنسوبة للأمثال العربية.

رصد الباحث عددًا من الأهداف المتفرعة: التعرف على نشاط دراسات الخطاب، ودوره في بناء معرفة منقودة واعية، والتعرف على مفهوم خطاب التمييز، والإسهام في تظهير خطره، وتتبع كيفيات تكوينه، والتعرف على ما يشيده خطاب التمييز في قطائع تنعكس على علاقة الذات بوجودهما أو بالآخر، وانعكاس ذلك على الواقع، والإسهام في رفع الوعي بالمساءلة والنقد.

وتتجلى أهمية الدراسة فيما تتوفر عليه من فاعلية في التحقق من معقوليته، والمعارف التي نحتكم إليها في حياتنا، وكشف إمكانية استغلالها، واختباء السلطة تحت دعاوى الحقيقة، وينبه الباحث إلى خطر خطاب التمييز.

ويتناول نهج الدراسة بالتحذير من تحول المعارف الجاهزة إلى استلاب، وإخضاع المعارف للمساءلة والنقد.

يختار الباحث الخطاب وفق مفهوم ميشيل فوكو، مستهدفًا تمكين الذوات من الوعي براهنها عبر نقد المعرفة الجاهزة، وتحريرها من إمكانات الاستغلال، ويرى كفوكو أن الخطاب لا يرى في اللغة حقيقة موضوعية يطابق ما يقال عبرها ما هو في الواقع؛ ما يوفر للمعرفة شرط المحايثة.

رؤية فوكو للخطاب أنه نشاط مفتوح على تعدد التحليل؛ ما يجعله متوفرًا على إمكانية تحرير نفسه باستمرار من أي قابلية، أو تنميط قد يقع خلال عملية التحليل، وتمكن محلل الخطاب من التتبع المتأني للمنطوقات الخطابية، والانهماك في التحليلات.

في نهج الدراسة في تحليل خطاب التمييز، يورد سبعة توضيحات يحرص الباحث أن تكون حاضرة في أفق تلقيها.

تتبع حدث خطابي معين للوقوف على كيفيات اطراده؛ للوصول إلى محايثات لبعض الاطرادات في التصور، وليس إلى قواعد معيارية.

وثانيًا، تحليل الخطاب لا يُعنَى بتحليل المحتوى، أو التحليل النحوي، أو المنطقي، أو الدلالي، أو النصي، وثالثًا فإن التحليل نشاط للكشف، والتظهير، والإبراز، وليس وسيلة للشرح، ورابعًا فإن معاني مفاهيم الصغرى التي ترد في ثنايا التحليل يمكن استخلاصها في السياقات الفكرية التي يستعمل فيها.

أما الخامس، فإن ما يجري اقتباسه من أقوال ميشيل فوكو وغيره يأتي في سياق التوضيح، والتقريب على وجه الإمكان.

ويدرس في السادس تقسيم الدراسة، وبناء تراتبية الفصول والفقرات؛ كونها خاضعة للخطاب الأكاديمي.

ويرى في السابع أن دراسة الخطاب تعمل على ترهين المعارف، ونقدها، ومساءلتها.

ويحدد الباحث ثمان مصطلحات كعناوين للدراسة. يدرس المعاني المختلفة والمتعددة للتمييز. يدرسها عميقًا في الخطاب مضافًا للتمييز. ويعني بالخطاب بناء كيفيات التصورات، وما ينبثق عنها من ترسيمات، وتنميطات، فتحليل الخطاب يذهب بالضرورة إلى نقد المعارف، ومساءلتها بهدف تحريرها من الماضي، وما راكمه من جاهزيات، وما ترسخه الألفة والعادة.

ويتناول الباحث الدراسات السابقة، ويرى العناية بالكيفيات التي تُبنى بها التصورات السابقة، فليس من الشأن البناء على دراسات سابقة؛ فالدراسة – كتأكيد الدكتور – أمثالاً لسلطة الخطاب الأكاديمي، وما تفرضه من ذكر للدراسات السابقة.

كما يقوم الباحث بتقسيم الدراسة إلى مقدمة، وتمهيد، وخمسة فصول، وخاتمة على النحو الذي توضحه الدراسة الأكاديمية شديدة الدقة التي يمتلك صاحبها ناصية البحث.

العلامة الباحث الأكاديمي درس عميقًا فكر الحداثة لدى أهم مفكري الحداثة، ووقف أمام فكر وحداثة المفكرين الحداثيين في مختلف مناحي المعرفة الإنسانية: فرويد، وادغار موران، ودريدا، وباشلار، والتوسير، وليفي شتراوس، ودولوز، وبارت، ونيشته، والزواوي بغورة، وعبدالسلام بنعبد العالي، وعبدالكبير الخطيبي، ومحمد سبيلا، والعشرات من صنّاع الحداثة وروادها، كما طوف، ودرس الفكر والتراث الإنساني والعربي في مختلف المراحل.

والباحث دؤوب ومتأنٍ، قراءته العلمية والدقيقة للأمثال، وللمصطلح، وللمفهوم، والمنطوق، والمعرفة بمعانيها، وأبعادها المتعددة: المعرفة العامة، والمعرفة العلمية، والقطيعة المعرفية، ويدرس الخطاب، والدراسات الثقافية، ونشأة العلوم الإنسانية، ونقدها، وقراءته متميزة وعميقة للمفاهيم والمصطلحات الأساسية.

الدكتور محمد فايد أحمد عامر بهذه الرسالة يلج أبواب الحداثة، والغوص عميقًا في فكر العصر، وفي امتلاك أداة المعرفة النقدية، والإمساك بطرائق الفهم، والتعامل مع النص، وعميق إدراك العلاقة وحدودها.

قليلون هم المفكرون الباحثون العرب الذي درسوا بمعرفة ووعي هذا الخطاب النقدي، وأدركوا مدى الإفادة منها، وتطبيق منهجها، كعبدالكبير الخطيبي، وأركون، ومطاع صفدي، وفتحي التريكي، والجابري، وعبدالسلام بنعبد العالي.

* نقيب الصحافيين اليمنيين.

   
 
إعلان

تعليقات