Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

بوفاة الأديبة اليمنية مياسة ناصر يطوي الثرى موهبة عظيمة في كتابة القصة القصيرة.

وبما أن المكتوب عنها لم تعد موجودة بيننا، وهذا يزيل شبهة المجاملة، فإنني أقول رأيي عن كتاباتها بصراحة:

نحن بإزاء نصوص قصصية رفيعة المستوى تستحق أن تُخلد، وأن تُدَرَّس في المناهج التعليمية، وأن تصدر في طبعات واسعة الانتشار.

ترسم مياسة ناصر اتجاهًا أسلوبيًا متفردًا في كتابة القصة الرمزية، بل هي من وجهة نظري، ومن خلال ما اطَّلعتُ عليه من أعمال أدبية يمنية، تعتلي قمة شامخة في استخدام الأداة الفنية الأكثر دلالة على النبوغ الأدبي، ألا وهي (الرمز).

قمة ليس من السهل على أيّ مبدع الوصول إليها، وإن قدرتها على تكوين هذا المزيج الساحر من الطبقات النصية ليثير الذهول ويخطف الإعجاب.

في مجموعتها القصصية المعنونة بـ”يوم الصيحة وقصص أخرى”(1) يمكننا أن نقتطف في القراءة الأولى المتعة الجمالية التي تثير بهجتنا وسرورنا، ثم يمكننا في القراءة الثانية والثالثة أن نعبر إلى الطبقات العميقة للنصوص، محللين العوالم الرمزية التي تتكشف أمام أنظارنا بالتدريج، فنشعر حينذاك بالاستنارة وبالنشوة الروحية الناتجة عن فهمنا للمغازي التي رمت إليها المؤلفة.

تشكل قصة “يوم الصيحة” مركز الثقل في هذه المجموعة، فهي أقرب إلى النوفيلا (Novella)، وهي نوع أدبي شائع أكثر في الآداب الأوروبية.

تتحدث “يوم الصيحة” – أكثر قصص المجموعة تشويقًا – عن سفر لجنة إلى قرية نائية لتسجيل سكانها في السجل الانتخابي ومنحهم بطاقات الانتخاب. وما إن تقترب اللجنة من تلك القرية حتى تُدخلنا الكاتبة في أجواء غرائبية ذات طابع محلي، غير مألوف حتى بالنسبة لنا. وبضربات سردية خفيفة بارعة مثل ضربات فرشاة الرسام، ننتقل بسلاسة من الواقع الفج إلى عالم أسطوري حافل بالعجائب والألغاز، فنظل نتابع القراءة متلهفين لتكشف مغاليق الأسرار وظهور الحقائق.

نجد هنا البيئة المحلية حاضرة بعاداتها وتقاليدها، وخصوصيتها اليمنية الفريدة، بل تنجح الكاتبة في نسج حبكتها من خيوط مستمدة من التقاليد القبلية الشائعة في أرياف اليمن، مثل امتناع النساء الريفيات عن قطع بطاقات لعدم موافقتهن على تصويرهن.

إن الغرائبية التي نلمسها في “يوم الصيحة” ليست صدى للواقعية السحرية الآتية من أمريكا اللاتينية، وليست ظلًا باهتًا لغرائبية كافكا الأوروبية، ولكنها غرائبية نابعة من واقعنا، الذي يبدو حين نقرؤه مكتوبًا وكأنه غير قابل للتصديق.

هذه المهارة السردية الفائقة التي امتلكتها الكاتبة مياسة ناصر في تطويع الواقعي المحجوب بحجاب الألفة ليغدو غرائبيًا، هي حدث أدبي جديد في الأدب اليمني، ويجب الالتفات إليها كدليل على الأصالة الإبداعية.

“يوم الصيحة” حافلة بالشخصيات المتباينة، التي نجحت الكاتبة في رسمها بتفوق ملحوظ، فثمة رئيس اللجنة الرجالية العم صلاح صالح الحزبي الذي يرتاب في كل أحد وفي كل تصرف، وهناك الشخصيات النسائية المتفاوتة المستويات والثقافات، من بطلة القصة رئيسة اللجنة النسائية وزميلاتها في اللجنة ألطاف وهدى، إلى النساء القرويات مثل قوت وسُعدى وعيشه أم الباحث التي أبدعت الكاتبة في وصفهن، حتى توشك كل شخصية منهن أن تتجسد حاضرة أمامنا، فهي ليست شخصيات رسمها خيال المؤلفة من العدم، ولكنها شخصيات من لحم ودم، نكاد نجزم أننا صادفناها يومًا ما في هذه القرية أو تلك المنطقة.

تحضر الاستعارة في قصص هذه المجموعة كلها دون استثناء، فلا وجود لقصة سطحية المبنى خاملة المعنى، ولعل أفضل قصة تتسلسل فيها (الاستعارات) على أبدع ما يكون، نجدها في قصة “نزهة أخيرة” التي تبلغ الذروة العليا في استخدام هذه التقنية الأدبية.

وهي ذروة شاهقة من الناحية الفنية، وينبغي لمن قرأ هذه القصة القصيرة بالذات، أن يتوقف عندها كثيرًا، ولعله يتفق معي أن هذا النص المذهل يرتقي بالأدب اليمني إلى مرحلة فنية مختلفة تمامًا، ويضعه في مصاف الآداب العالمية.

جميع قصص هذه المجموعة جديرة بدراسات نقدية متأنية، لبيان محاسنها، وكشف القناع عن رموزها، وإظهار مقدار الاشتغال الفني الذي أولته الكاتبة لنصوصها.

وأصل أخيرًا إلى اللغة الأدبية الجزلة، الأداة الفنية الأهم على الاطلاق في كتابة الأدب، وهي الأداة التي أظهرت فيها مؤلفتنا قدرًا كبيرًا من التمكن والإتقان، فاللغة في كل قصص المجموعة مصقولة، و غنية بالمفردات المنتقاة بعناية صائغ الجواهر الكريمة، فكل كلمة تؤدي معناها دون زيادة أو نقصان، فهي في موقعها المناسب ولم توضع كيفما اتفق.

بناء الجملة سليم تمامًا، يخلو من الزوائد اللفظية الجوفاء، لذلك نلمس خفة ورشاقة في السرد، وكأنما نسمع جرسًا موسيقيًا ينساب بين السطور.

—————  

(1) يوم الصيحة وقصص أخرى: مياسة ناصر، دار عناوين بوكس، القاهرة، الطبعة الأولى، 2022. 

* كابت وروائي يمني.

   
 
إعلان

تعليقات