Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

هذا سؤالٌ يُحرق اللسان كالنار، وأعتقدُ أنّ ثلاثين مليون يمني إما يطرحونه بصورة مباشرة، أو يضمرونه بين جوانحهم.

لكن عكس ما تذهب إليه التوقعات، لن يكون المنقذ فردًا، ولكن طبقة اجتماعية متميزة!

يتكون الهرم الاجتماعي لأي مجتمع بشري معاصر من ثلاث طبقات، القمة ويشغلها الأغنياء، والوسط وتشغلها الطبقة الوسطى، وقاعدة الهرم التي يشغلها الفقراء.

ويكاد يُجمعُ علماء الاجتماع على أنّ الطبقة الوسطى هي مفتاح الاستقرار والتطور والرقي في أيّ مجتمع إنساني.

والمؤكد أنّ النجاح الذي تحرزه أيّ دولة من دول العالم، إنما يعودُ الفضل فيه بالدرجة الأولى إلى وجود طبقة وسطى تُشكِّل شريحة عريضة من المجتمع.

على سبيل المثال، حافظ المجتمع الإنجليزي على طبقة وسطى متينة خلال القرون الثلاثة الماضية، ما ساهم في تحويل بريطانيا من دويلة صغيرة هامشية إلى إمبراطورية عُظمى امتلكتْ مصير البشرية بين يديها.

وعندما نتأملُ أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، الذي حدث دون مؤثرات خارجية، فإنّ السبب الخفي الذي لم ينتبه إليه المؤرخون يعودُ بالدرجة الأولى إلى غياب الطبقة الوسطى، ذلك لأنّ الماركسية تقسم المجتمع إلى قسمين: الطبقة البرجوازية وطبقة العمال، وليس هناك مكان وسط بين الطبقتين.. وهكذا وقع المجتمع السوفييتي في حالة جمود قاتلة، انتهت بإسقاط النظام الاشتراكي، وتفكك الاتحاد إلى 15 دولة.

كان كارل ماركس يسخر من الإنجليز، ويقول عنهم إنهم أمة من البقالين! لكن تلك الطبقة التي سخر منها كارل ماركس، هي التي تمكنت من البقاء والنمو حتى يومنا هذا.

لكن من هم أفراد الطبقة الوسطى الذين نُعطيهم هذه الأهمية القصوى؟ سوف نجد في معظم دول العالم أنّ النواة الصلبة لهذه الطبقة تتكون من شريحة الموظفين.

وتنقسمُ هذه الشريحة إلى فئتين هما: الموظفون في القطاع العام بشقيه المدني والعسكري، والموظفون في القطاع الخاص.

وعندما ننظر إلى وضع اليمن الصعب والمعقد، بسبب الحرب التي طال أمدها، فقد نشعرُ باليأس، ونفقدُ الأمل في الخروج من مستنقع الدم والأحقاد. لكن الاستسلام لهذه النظرة التشاؤمية ليس سوى جريمة أخلاقية بحق أطفالنا والأجيال اليمنية القادمة، والصحيح هو أنّ نبحث عن حلولٍ جذرية، للخروج من زاوية العنف والفشل والتشرذم، إلى مربع السلام والرفاه والتماسك الاجتماعي.

ولكي ننجح في بناء المجتمع اليمني على أُسس سليمة، يجب أن نُفكك عوامل الهدم ونزيحها جانبًا، ونركز على عوامل البناء، ونلتزم العمل بها وفقًا لقوانينها. ولعل أهم عامل من عوامل نجاح المجتمعات البشرية هي الطبقة الوسطى، وبخاصة عندما تصبح هي الطبقة المسيطرة سياسيًّا واقتصاديًّا.

تشير تقارير البنك الدولي في عام 2010 إلى أنّ الطبقة الوسطى في اليمن كانت تُشكل نسبة 36% من نسبة السكان. لكن بعد قيام الثورة الشبابية في عام 2011، ثم اندلاع الحرب في عام 2015، تآكلتْ الطبقة الوسطى في اليمن، بحيث لم تعد تُشكل سوى نسبة 8% من نسبة السكان في عام 2021.

تقديري الشخصي أنه لو لم تقم الثورة الشبابية في عام 2011، وظلت اليمن مستقرة سياسيًّا، فإنه المرجح أنّ الطبقة الوسطى اليمنية كانت ستتوسعُ أكثر، وربما تمكنت من تجاوز نسبة 40% من نسبة السكان في عام 2021.

يزعمون أن الطبقة الفقيرة هي التي أشعلتْ نيران الثورة الشبابية، ولكن هذا التقدير خاطئ.. فمن أشعل الثورة في عام 2011 هي الطبقة الوسطى، فهذه الطبقة هي قائدة التغيير في كافة المجتمعات البشرية، وهي التي تطمح لتحقيق وثبات أعلى في سلم التطور الحضاري، ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن في الحالة اليمنية.

تشير تقديرات خبراء الاقتصاد إلى أنّ من ينطبق عليهم وصف الطبقة الوسطى، هم المواطنون الذين يتراوح دخلهم اليومي ما بين (11-110) دولار أمريكي، أيّ كحدٍّ أدنى 330 $ شهريًّا.

ويبلغُ عدد موظفي القطاع العام في اليمن حوالى 1,25 مليون موظف مدني وعسكري. وربما العدد نفسه من الموظفين في القطاع الخاص، ليصل المجموع إلى 2,5 مليون فرد. وبالطبع يدخل ضمن الطبقة الوسطى فئات أخرى مثل أرباب العمل، وأصحاب المهن الحرة.

لكننا سنركز على فئة الموظفين التي تشكل بحسب الدراسات نسبة 50% من حجم الطبقة الوسطى في اليمن. وبحسبة بسيطة، إذا افترضنا أنّ الموظف يعيلُ أربعة أفراد كمعدل وسطي، فإننا نحصل على رقم يصل إلى عشرة ملايين نسمة، أي ثلث الشعب اليمني تقريبًا.

وفقًا لهذه المعطيات، نجد أنّ الحل لأزمات اليمن ومشاكلها المستعصية يغدو واضحًا، وما على قادة الدولة سوى اتخاذ الإجراءات الضرورية لانتشال الموظفين في القطاع العام من الطبقة الفقيرة إلى الطبقة الوسطى، عن طريق اعتماد الحد الأدنى للأجور، الذي يبلغ 330 دولارًا أمريكيًّا في الشهر.

وعندما نحسب المبلغ المطلوب دفعه من ميزانية الدولة، لتحقيق هذا الإنجاز الاستراتيجي، فإنه يصلُ إلى حوالى خمسة مليار دولار سنويًّا.

إذا لم تكن الدولة قادرة على الالتزام بهذا الحد الأدنى للأجور (11 دولارًا في اليوم)، فإن هناك حلولاً تعويضية، يمكنها أن تسد هذه الفجوة في الأجور، بحيث يمكن الإبقاء على فئة الموظفين ضمن دائرة الطبقة الوسطى.

ومن الحلول التي يمكن اللجوء إليها لسد الفجوة في الأجور، قيام الدولة بمنح الموظفين مساحات من أراضي الدولة مجانًا، في جميع المحافظات اليمنية، وإنشاء بنك عقاري تملكه الدولة، يقومُ بتقديم قروض لموظفي الدولة لبناء منازلهم الخاصة، ويتم تسديد القروض على أقساط مريحة، تمتد لثلاثين عامًا.

يجبُ أن تساهم الدولة في بناء مئات الآلاف من البيوت لمواطنيها، والعائد الذي ستحصلُ عليه هو الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي، لأنّ تحويل اليمن إلى ورشة بناء كبيرة سوف يؤدي حتمًا إلى انتعاش الاقتصاد، ونمو قطاعات كثيرة ذات صلة بتشييد المباني.

كذلك يمكن للحكومة أن تنظم سوق العمل، وتفرض على القطاع الخاص حداً أدنى للأجور، يبدأ من 6 دولار يومياً، ثم يتم رفع الأجور تدريجياً، حتى تصل إلى عتبة 11 دولار يومياً كحد أدنى.

ينبغي على القادة السياسيين أنْ يدركوا أنّ الطبقة الوسطى هي صمام أمان الدولة، وهي التي تحرك عجلة النمو الاقتصادي، وهي التي تؤمن للدولة الكفاءات العلمية والثقافية، وهي التي ترسخ الهوية الوطنية عبر دمج الهويات الصغيرة في إطار طبقة واحدة قوية ومتعلمة وتتمتع بوضع اجتماعي لائق.

الطبقة الوسطى هي كلمة سر نجاح الدول المتقدمة، وهي الذراع اليمنى للتنمية، وبدونها لن تفلح أيّ جهود أو خطط يضعها السياسيون لنهضة البلد، فهي الحجر الأساس، وهي التي تصنع عظمة الأمة.

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات