Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

يصف الروائي الفرنسي (أندريه مالرو) أحوال الشعب الصيني في عام 1927 بجملة تقشعر لها الأبدان: “هناك الذين يعملون في معامل النسيج، والذين يشتغلون ستة عشرة ساعة في النهار منذ طفولتهم: إنهم شعب القروح، والمشوهين، والمجاعة”(1).

يُبدع أندريه مالرو من هذه الجملة القصيرة الحادة رواية كاملة، تشرح بالتفصيل كيف أن شعب الصين يتألم من الجوع والمرض والتشوهات العقلية والنفسية.. وهذه المبادرة الإنسانية الشفافة التي تستشعر آلام الآخرين ومحنتهم، ولا تكتفي بالتعاطف وحده، وإنما تتشارك وجدانيًّا معهم في مأساتهم، هي بكل يقين السر الأعظم الذي يتفرد به الأدب.

حين شرعتُ في قراءة رواية “الوضع البشري” لأندريه مالرو، لم أكن متحمسًا كفاية، نظرًا لحجم الرواية الكبير، وأيضًا لتوقعي بأنها ستكون رواية عادية عن المجتمع الفرنسي. لكن للفن الجميل مفاجآته، فها هو أندريه مالرو يُخالف توقعاتي، ويذهب بخياله الأدبي الدفاق إلى بقعة قصية من الأرض، هي شنغهاي الصينية. صحيح أن الصين قد تبدلت كثيرًا عن الأوضاع التي عاشتها في النصف الأول من القرن الماضي، ولكن أندريه مالرو برائعته الروائية، يُبين الأسباب التي آلت بالصين إلى أن تصير ما هي عليه اليوم كثاني قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.

كيف أمكن للأدب أن يمتلك من القيمة والأهمية ما يُضاهي كتب التاريخ الموثوقة؟ إنه سؤال يتضمن جوابه بداخله، كما يُحس بذلك القراء من جميع أنحاء العالم. ولو تصادف أن أعطاني أحدهم كتابًا تاريخيًّا عن الثورة الصينية، لما كلّفت خاطري عناء قراءة صفحة واحدة. ولكن حين يتعلق الأمر بعمل أدبي مُتقن، مكتوب بأسلوب لماح وبارع، فإن القراءة حينئذٍ تتحول إلى شغف لا حدود له.

يرسم أندريه مالرو بورتريهًا دقيق التفاصيل لشنغهاي الصينية قبل الثورة، فهو يُظهرها مدينة مُجزأة، متنافرة، يحكمها أغراب من مختلف الجنسيات، وتتحكم فيها الشركات الأجنبية، وتدير دفة الحياة فيها طبقة من الرأسماليين الجشعين. الأكثر غرابة هو أن المحتلين قد ابتكروا لأنفسهم قناعات محددة عن أصحاب الأرض الصينيين وآمنوا بها، وهي قناعات بمجملها تنظر إلى الإنسان الصيني نظرة دونية. يُمثّل (فرال) رئيس جمعية التجار الفرنسية الآسيوية، نموذجًا للنفوذ الأجنبي الطفيلي، الذي ينهب موارد البلاد بأبخس الأثمان، ويجني ثروات تقدر بالملايين بسواعد عمال وطنيين يتضورون جوعًا. يصف مالرو النشاط التجاري المحموم لرجل فرنسا القوي (فرال) كما يلي: “مصرفي قروض عقارية وزراعية، أربع شركات زراعية: أشجار المطاط، زراعات استوائية، زراعات قطنية، وزراعات سكرية. وكان يُشرف على تحويلها المباشر من مواد أولية إلى منتجات جاهزة. وثلاث شركات مناجم: فحم حجري، فوسفات، ذهب. بالإضافة إلى ملحق استثمار الملاحات. وخمس شركات صناعية: إنارة وطاقة، وكهرباء، ومعامل زجاج، ومعامل ورق، وأجهزة طباعة. وثلاث شركات نقل: قوارب، قطارات، تراموايات. وكانت شركة الأشغال العامة، في الوسط، ملكة هذا الحشد من الجهود، والبغض، والورق، وكانت كالأم أو القابلة لمعظم هذه الشركات الشقيقات النهمات، وقد تمكنت هذه الشركة من الحصول على التزام الخط الحديدي حتى آنام”(2). وعندما ثارت المدينة، رحل هذا ال(فرال) في سفينة فرنسية عائدًا إلى أوروبا، وقلبه مليء بالمرارة.

شخصية أخرى فرنسية نجدها في الرواية هي (مرسيال) مدير الشرطة في القسم الأوروبي من المدينة، نلاحظ أن المدينة مقسومة إلى قسمين: أوروبي وصيني، ورغم المساحة الصغيرة جدًّا التي تشغلها هذه الشخصية في الرواية، فإن مالرو اشتغل عليها بحرفية عالية:

“في زاوية مكتب مرسيال، مدير الشرطة، كان مخبر صيني ضخم الجثة يسأل: أهذا كل شيء يا سيدي الرئيس؟ أجاب مرسيال، دائرًا ظهره إلى مخاطبه: اِعمل أيضًا على تفكيك عُرى النقابة بجرأة وحزم لا بهذا التراخي الذي تعمل به حتى الآن والذي تستحق عليه الطرد”(3).

ويسلط مالرو الضوء على الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين الثوار أنفسهم، والتي بدأت شرارتها الأولى في شنغهاي كبرى المدن الصينية. وبأسلوب مشوق يقطع الأنفاس، يسرد مالرو كيف شكّل العمال لجنة عسكرية، ووضعوا خطة للاستيلاء على المدينة، ببنادق قليلة، وثلاثمائة مسدس، وأسلحة بسيطة كصفائح البترول، والخناجر والمطارق والأسلاك الحديدية. ورغم نجاح العمال في الاستيلاء على مراكز الشرطة، ومحطات القطارات، ومبنى بلدية شنغهاي، وجميع المؤسسات الحكومية، ومخازن السلاح والثكنات، فإن هذا النصر سرعان ما انتُزع منهم.. ففي الأيام التالية دخل جيش الثورة بقيادة (شان كاي شك) إلى المدينة المحررة، وطلبوا من العمال تسليم أسلحتهم التي استولوا عليها. كان الوضع متوترًا بين الزرق والحمر – الوطنيين والشيوعيين – فرفض العمال في البداية تسليم أسلحتهم، وانتظروا قرارًا من قيادتهم، لكن لا تعليمات من اللجنة المركزية.. واستغل (شان كاي شك) هذا التباطؤ فأوقع مذبحة بعمال المدينة وأفناهم.

إن الحرب الأهلية في الصين هي واحدة من مآسي القرن العشرين الكبرى، التي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، غالبيتهم من النساء والأطفال والفتيان الذين لم يتفتح شبابهم بعد.

يقول مالرو على لسان إحدى شخصياته:

“لا يلزم تسعة أشهر، بل يلزم ستون عامًا لكي يُصنع إنسان، ستون عامًا من التضحيات، ومن الإرادة، ومن كل شيء! وحينما يكتمل هذا الإنسان، حينما لا يبقى فيه شيء من الطفولة، ولا من المراهقة، حينما يصبح إنسانًا حقيقيًّا لا يعود يصلح إلا للموت”(4).

هذه التأملات الفلسفية العميقة في الوجود الإنساني هي التي تعطي للرواية ميزة لا تتوفر في كتب التاريخ الجامدة، وهي التي تجعلنا نميل إلى تصديق الروائي أكثر من زميله المؤرخ.

——————————— 

  1. الوضع البشري: أندريه مالرو، رواية، دار عويدات، بيروت، 1999، الطبعة الثانية، ص21.
  2. المصدر نفسه، ص80.
  3. المصدر نفسه، ص73.
  4. المصدر نفسه، ص318.

—————- 

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات