Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*
مع الناقد الفرنسي رينيه جيرار، يمكن القول إنه قد حانت الساعة ليرتقي النقد الأدبي إلى مصاف العلوم الإنسانية الكبرى، بل وأن يطمح إلى تجاوزها.. أي أن يحقق التجاوز المعرفي، ويُقدم المعلومة الصحيحة التي عجزت العلوم الأخرى عن التوصل إليها.

يظل الإنسان هو السر الأكبر، وتسعى معظم العلوم إلى كشف أسراره، فهناك علم الطب الذي يركز على الجسد، وهناك علم النفس الذي يُحدّق في كهوف الوعي البشري. يبقى أن نقول إن الأدب هو المستكشف الأول للنفس البشرية، وإن سائر العلوم اقتفت أثره، وفي مرحلة معينة تعالت عليه – أي الأدب – وأصيبت بلوثة الغرور، وقررت أنها قد اكتفت بنفسها ولم تعد في حاجة لنور الإبداع وقبس الإلهام. 

في كتابه “الكذبة الرومنسية والحقيقة الروائية” (ترجمة رضوان ظاظا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008) يُنجز رينيه جيرار إنجيلًا جديدًا للنقد الأدبي، ويتوصل إلى أن معظم النشاط البشري له علاقة بما يسميه “مثلث الرغبة”. أي أنه يزيح جميع نظريات علماء النفس الكبار أمثال سيغموند فرويد وكارل جوستاف يونغ، ونظريات علماء الاجتماع وفي مقدمتهم كارل ماركس، ويؤسس انطلاقًا من روايات سرفانتس وستندال وبروست ودوستويفسكي نظرية جديدة، نظرية مذهلة، بسيطة وعبقرية، وقد اتخذ كتطبيق لها نخبة من روايات محددة: دون كيشوت، الأحمر والأسود، البحث عن الزمن المفقود، الشياطين. والمفاجأة أن هذه النظرية يمكن تطبيقها على جملة من الأنشطة البشرية في المجالات السياسية والاقتصادية والدينية.

يتكون “مثلث الرغبة” من 1- الراغب 2- الشيء المرغوب به 3- وسيط الرغبة.

يشرح رينيه جيرار أن مشكلة الإنسان المعاصر هي الغرور! وأن هذا الإنسان المغرور لا يستطيع استخلاص الرغبة من أعماقه، بل يستعيرها من الآخرين. وأسهل تطبيق لهذه الفكرة نجده في الجنون المسمى بـ”الموضة”. فنجد النساء مثلًا ينفقن أعمارهن في شراء الملابس والإكسسوارات تشبهًا وتقليدًا، وكذلك يفعل الشبان الذين يقلدون نجوم الرياضة أو السينما، وكل واحد من هؤلاء يُفرّط في سحره الشخصي وتميزه الموهوب له من الله عن بقية البشر، ليحاول تلبّس شخصية أخرى غير شخصيته، فيتحول من مخلوق أصيل إلى نسخة مُقلدة، نسخة باهتة وممجوجة وسطحية، وهذا هو الطريق الخاطئ الذي أفرغ الإنسان المعاصر من محتواه، وجعله يُعاني من الخواء والتصحر الروحي.

في الأمثلة السابقة نفهم أن المقصود بـ”وسيط الرغبة” هو شخص نتخذه إلهًا، إنسان يصير معبودًا للجماهير، نوع من العبادة الوثنية الخفية لأبطال تركز عليهم وسائل الإعلام ليلًا ونهارًا. يقول رينيه جيرار:

“المغرور لديه أنا عاجز عن الرغبة من تلقاء نفسه.. مصدر السم الروحي في محاكاتنا الشغفة لأفراد هم في الحقيقة أنداد لنا لكننا نلبسهم حُلّة اعتباطية من السحر والهيبة”. وهذا الوصف يلاحظ بسهولة على المراهقين المتهافتين على التقليد، لكن رينيه جيرار يتوغل أبعد، ويشرح بالتفصيل أن نشاطنا في مختلف أعمارنا مرتبط بمثلث الرغبة.. وأن الإنسان لا يتخلص من سحر مثلث الرغبة إلا على مشارف الموت، أي في حالة الاحتضار.

ربما يُجادل البعض أن الأديان تستطيع تخليص الإنسان من مثلث الرغبة، ولكن يتضح من وصف رينيه جيرار أن التقليد الأعمى يسري أيضًا في صفوف المتدينين، وأن المُعجب برجل دين أو داعية لا يقل هوسًا عن معجب بلاعب كرة قدم، وكلاهما يتخذ وسيط الرغبة مثلًا أعلى يحتذيه، فيفقد القدرة على التفكير المستقل، وتضيع مشاعره الحقيقية وسط خليط من مشاعر لا تعنيه هو شخصيًّا. والطريف أن رينيه جيرار يلاحظ أن هذه الرغبة مُعدية، وأن المرء يلتقط رغبة مجاوره كما يلتقط عدوى المرض من مجرد ملامسة شخص مُصاب.

وهناك نوع من الغرور أشد عتوًّا، وهو ذلك المغرور الذي يظن نفسه مستقلًا عن كل أحد، ولا يرضى أن يُقر بوصاية أحد عليه، فهو حر جسدًا وعقلًا.. يصف رينيه جيرار هؤلاء بقوله: “الرومنسي المغرور لا يريد أن يكون من مريدي أحد، وهو يظن نفسه أصيلًا إلى أبعد حد”.

ونلاحظ أن معظم الأدب الذي أنتجته أوروبا خلال القرنين الماضيين كان يُقدم شخصيات تؤكد هذا المسعى، باستثناء الروائيين العباقرة أمثال بروست ودوستويفسكي. 

يُصدّر رينيه جيرار كتابه بمقولة موجزة للمفكر ماكس شيلر: “يملك الإنسان إما إلهًا أو صنمًا”. وهي بمثابة ضوء يخترق الظلمات التي تخبطت فيها خيرة العقول التي أنتجتها حضارتنا المعاصرة. والكتاب كله يتحدث عن هذين المسارين.

كيف يمكن للإنسان أن يُدرك أنه مغرور؟ يقدم رينيه جيرار الوصفة النموذجية: “لكي يرغب مغرور في غرض ما، يكفي إقناعه بأن طرفًا ثالثًا يتمتع بشيء من الاعتبار، يرغب في هذا الغرض”. ووفقًا لهذا القياس، يمكن ملاحظة لماذا مثلًا تفشل معظم قصص الحب بعد الزواج، لأن العاشق المغرور اندفع إلى الحب، ليس بدافع أصيل من نفسه ومشاعره، ولكن لأن طرفًا ثالثًا أثار غيرته، واستثار فيه غروره للمنافسة.. وبعد زوال خطر المنافس، فإن هذا العاشق المغرور يكتشف أن غرض رغبته – وهي المرأة – قد فقد قيمته! ويسري هذا القياس أيضًا على كل رغباتنا في الحياة.. وما التسابق المحموم للاقتناء والاستهلاك والإنفاق إلا صورة مجسدة للإنسان المعاصر المغرور الذي تمزقه الغيرة والحسد. وفي حالات معينة يتصاعد هذا الغرور إلى درجة الكراهية، فيصبح الشيء المرغوب به مكروهًا، ومصدرًا للنفور. 

يُقسم رينيه جيرار الأعمال الروائية إلى قسمين: أعمال رومانسية، وأعمال روائية. وهو يعتبر الروايات التي لا تكشف عن “مثلث الرغبة” أعمالًا رومانسية وليست روايات.. وفي هذا القسم تصب نسبة هائلة جدًّا من الأعمال الروائية المنشورة في جميع أصقاع الأرض، لأنها تُضلل القارئ، وتزيده وهمًا على وهم، وتبعده عن اكتشاف نفسه. يعلق رينيه جيرار على هذه النوعية من الروايات بقوله: “الكراهية تكتب لنا كل يوم عن حياة أعدائنا الرواية الأكثر زيفًا”.

يتوسع رينيه جيرار على مدار 370 صفحة في التأسيس لنظرية الرواية “الروائية” التي تقوم على قانون “مثلث الرغبة”، وهذا المثلث لا يظهر كما سبق أن أشرنا إلا عند عدد محدود جدًّا من كبار كتّاب الرواية.

هل الرغبة خطأ؟ يُجيب رينيه جيرار على هذا السؤال بتقسيم الرغبة بحسب مصدرها، فإذا كان مصدرها الغرور فإنها رغبة كاذبة، وأما إن كان مصدرها “الشغف” فإنها رغبة صادقة. ونلاحظ أنه يضع “الشغف” في مقابل الغرور، وليس “التواضع” كما قد يتبادر للذهن من الوهلة الأولى.. وهذا غريب، لأن السائد أن “التواضع” هو نقيض الغرور. وإذا طبقنا مقولات رينيه جيرار على النشاط الثقافي مثلًا، فسوف نلاحظ أن الرغبة في الإبداع إما أن تكون بدافع الغرور، أي أن المرء يرغب في الإبداع لإشباع غروره، وإما أن تكون رغبته نابعة من شغف حقيقي بالإبداع، والفارق بين الاثنين هو الفارق بين الأصيل والمُقلّد. 

بالنسبة للأدب العربي، يمكن القول بثقة إن روايات نجيب محفوظ والطيب صالح قد كُتبتْ بدافع “الشغف”، وهذا هو سر أصالتها.

كما أن غياب هذا الدافع – الشغف – يُفسر لماذا توقف نجيب محفوظ سبع سنوات عن كتابة الرواية، ولماذا كف الطيب صالح عن كتابة الرواية في مرحلة معينة من حياته.

نعثر على “مثلث الرغبة” في كثير من القصص الواردة في القرآن الكريم، مثل قصة “إبليس” طاووس الملائكة الذي منعه غروره من السجود لآدم. ويظهر مثلث الرغبة بوضوح في قصة خروج آدم من الجنة، فأدم هو الراغب، والشجرة المحرمة هي الشيء المرغوب به، وإبليس هو وسيط الرغبة.. وتتكرر كلمة “الغرور” بصورة دالة في الآيات القرآنية التي تتحدث عن خروج أبي البشر من الجنة. كما يظهر مثلث الرغبة في قصة النبي يوسف مع زليخا، وقصة النبي موسى مع الخضر، وفي أقوال المشركين الذين جادلوا بأنهم إنما يعبدون الأصنام لتقربهم من الله زلفى، أي أنها اتخذت وسيطًا للرغبة.

لقد وضع الناقد الأدبي الفرنسي (رينيه جيرار) يده على كنز من الأسرار، نوع جديد من المعرفة لم يسبقه إليه أحد، وهو يتخطى حدود النقد الأدبي المألوفة ليرتقي إلى ساحة فكرية عليا تنتمي لهذا الجواب الشامل للقدر البشري المُحوم فوق رؤوسنا منذ الجد الأول وحتى الحفيد الأخير.

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات