Accessibility links

إعلان
إعلان

صنعاء – “اليمني الأميركي” – محمد الصباحي

ريام الدُبعي (24 عامًا) عازفة آلة الطُّرْبي (بضم الطاء وتسكين الراء) تقاوم بالموسيقا بؤس الواقع الذي فرضته الحرب المستعرة في اليمن منذ ثمان سنوات؛ لتمثّل تجربة فريدة ومُلهمة للكثير من اليمنيات اللواتي يقارعن ظروف الحياة ويتحدين نظرة المجتمع القاصرة للفن، وللموسيقا على وجه الخصوص.

ارتبطت تجربتها كعازفة للعديد من الآلات الموسيقية (العود، الكمان، الجيتار، البيانو) بأبيها الموسيقار عبدالله الدُبعي، أحد مؤسسي الفرقة الوطنية اليمنية للموسيقا، ليصدُق عليها المثل: (ابن الوز عوّام). 

يؤمن والدها بأن للموسيقا بُعدًا جوهريًّا في حياة اليمنيين، بما فيهم حياة ابنته ريام؛ ليكون تعلُّم الموسيقا متنفس سلام في أجواء عنوانها الحرب.. وهنا تُصبحَ ريام أول فتاة تقود فرقة شبابية في صنعاء، وربما في اليمن، وهي الفرقة التي تضم (37) عازفًا، أغلبهم من الفتيات، منذ أواخر 2018م، وتطمح من خلال هذه الفرقة، التي احتضن تأسيسها المركز الثقافي في صنعاء/ شمال، لتحقيق رسالة مهمة.. تقول لـ “اليمني الأميركي”: «أطمح من خلال قيادتي للفرقة، في مثل هذه الأوضاع في اليمن جراء الحرب، إلى المساهمة في الحفاظ على الإرث الكبير للموسيقى التقليدية اليمنية».

ريام تعزف على عدد من الآلات الموسيقية، وهي أول فتاة يمنية تقود فرقة شبابية للموسيقا.

 

نظرة المجتمع 

تتوافد الكثير من الفتيات في اليمن لتعلُّم العزف والغناء على الآلات الموسيقية في المركز الثقافي خلال سنيّ الحرب في ظاهرة لافتة تبرز بوضوح في قيادة ريام لفرقة موسيقية، وهي تجربة ليست بالمَهمة السهلة في ظل وجود الكثير من المضايقات، أبرزها كونها فتاة… عن أبرز المشاكل تتحدث: «كوني أول شابة في صنعاء تقود فرقة موسيقية أكثر أعضائها من الفتيات، وبحكم العادات والتقاليد يعتبر هذا شيئًا غير مألوف لدى المجتمع، بالإضافة إلى نقص الآلات الموسيقية، فأكثر العازفين يستعيرُ أو يشتري الآلة التي يعزفُ بها».

لم تستسلم الدُبعي لتلك المشاكل، متسلحة بدعم والدها الذي يعمل مدربًا للفرقة من دون مقابل بعد أن انقطع راتبه جراء الحرب، فتحدت العادات والتقاليد الرافضة لتعلم الفتاة للموسيقا… تقول: «دعم والدي للمركز كان له الأثر الكبير من خلال الاستعانة بما لديه من آلات موسيقية، كما كسبنا منه الثقة بأنفسنا، فهو قدوتنا!». 

مثّلت تجربة والدها الموسيقار عبدالله الدبعي خير ملهم لها ودافعًا لتحدي واقعها وتطوير تجربتها.

البداية 

ما زالت الدُبعي تتذكر بداية تعلقها بالموسيقا منذ طفولتها، وتحديدًا منذ عمر العاشرة، عندما كانت تختلس النظر باتجاه غرفة أبيها، وهو يداعب آلة الكمان، لتنتظر بفارغ الصبر لحظة خروجه… تقول: «بدأ حُبي للموسيقا منذ الصغر، فتعلقتُ بآلة الكمان، حيثُ كنتُ أقتنصُ فرصة خروج والدي من غرفته لأنقضّ بأصابعي على أوتارها  محاولةً العزف، وغالبًا ماكنت أمزقها، ليصبح والدي مدربي الأول… وكانت أغنية فيروز “نسَّم علينا الهوى” أول مقطوعة عزفتها».

ابتدأت رحلة ريام الفنية في العزف على آلة الطُّرْبي (تسمية دارجة في شمال اليمن لآلة يمنية تشبه العود، لكن أوتارها أقل عددًا من أوتار العود) من خلال مشروع “إعادة آلة الطُّرْبي إلى السطح”، الذي تبنته قبل ثلاث سنوات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) بالتعاون مع مركز التراث الموسيقي في اليمن… تقول: «الفضول هو الشرارة التي أوقدت فيَّ عشق آلة الطُّرْبي، لألتحق بهذا المشروع، وأكون العازفة الوحيدة في اليمن والوطن العربي، حسب تصنيف القائمين على هذا المشروع، الذي امتدت دوراته لأكثر من ثلاثة أشهر برفقة خمسة من الشباب المتدربين».

 

“كانت أغنية (نسَّم علينا الهوى) لفيروز هي أول مقطوعة عزفتها”.

 

آلة (الطُّرْبي)

تؤمن ريام بأهمية حفظ الموروث الغنائي اليمني (اللحن والكلمة والصوت) المصاحب لآلة الطُّرْبي.. توضح: «وُجدت آلة الطُّرْبي في عدد من النقوش السبئية القديمة على شكل رسومات، مما دفع اليونسكو لتصنيفها مع الأغنية الصنعانية ضمن روائع التراث العالمي اللا مادي.. يتمتع الطُّرْبي بخصوصية النغمة والتكنيك في طريقة أداء العازف، وتعتمد الآلة على أربعة أوتار، خلافًا للعود الذي لديه ستة أوتار، ويستخدم العازف ريشة النسر، ويُستخدم في صناعتها خشب (اللوز أو الطنب)، ويُغطى بطنه بجلد الماعز».

كما ترى أن آلة الطُّربي تعرضت للكثير من الإضافات والتعديلات، عملت بشكل سلبي في فقدانها للكثير من خصوصية الفن اليمني… توضح: «فترة الحرب الطويلة في اليمن ساهمت بشكل سلبي في التعدي على خصوصية آلة الطُربي في الصنع والعزف؛ فتغيّرت أوتارها ونغماتها».

فرقة القنبوس (القنبوس تسمية دارجة في حضرموت جنوب اليمن لآلة الطُّربي) هي الرئة التي تتنفس من خلالها ريام الدبعي وفريقها (خمسة عازفين) العزف والغناء من خلال إعادة التعريف بهذه الآلة الطربية، حيث قدّمت أعمالاً متنوعة من ألوان الموروث الغنائي في اليمن… تقول: «قدّمنا اللون الصنعاني (شمال)، فكانت أغاني (نسيم السحر – زمان الصبا) والحضرمي (جنوب شرق) أيضًا، وهو من أصعب الألوان؛ إذ له نغمة خاصة مختلفة عن النغمة الصنعانية، التي تُعرف بالنغمة المرصعة، وهي نغمة تُعرف لدى المتلقين غير اليمنيين بأنها (نشاز)، ولكنها النغمة التي تُميّز آلة الطُّربي في العالم». 

بدأت التدرب على العزف على آلة الطُّرْبي من خلال مشروع لليونسكو، وأصبحت أول يمنية تعزف على هذه الآلة الموسيقية.

 

الثقافة التقليدية القاصرة

لا تزال تُحاصر ريام في حياتها اليومية، النظرة التقليدية القاصرة للمجتمع تجاه الموسيقا، ولغة الاستهجان من ساكني حيّها، رغم حرصها الشديد على التخفي منهم، وإخفاء آلة الطُّربي عن أعينهم أثناء مرورها عبر أزقة حارتها للوصول إلى مركز التدريب.. تقول: «كنت أتعمد عدم الظهور وأنا أحمل أيّ آلة موسيقية خوفًا من ألسنة الناس ونظراتهم الناقصة… إلى الآن كثيرٌ من جيراني لا يعرف أنني أتعلم الموسيقا»، وتؤكد: «نرى الاحترام للفن والموسيقيين خارج اليمن، بينما نعيش واقعًا مغايرًا في الداخل نتيجة النظرة القاصرة تجاه الفنانين، ما بالك عندما تمارسه فتاة!».

تتعرض الدُبعي للكثير من المواقف الصعبة أثناء توجهها للتدريب أو إحياء مناسبة اجتماعية أو ثقافية، مما يسبب لها الخوف.. تقول: «بينما كنت أقطع الشارع خلال ذهابي لحضور حفل ثقافي حاول سائق دراجة نارية انتزاع آلة الكمان مني حتى كدتُ أسقط على الأرض… وفي إحدى المرات كنتُ برفقة عازفتين واستوقفتنا نقطة تفتيش، فخفنا على الآلات الموسيقية… فعمدنا إلى إخفائها في صناديقها، وعند سؤالنا عن تلك الصناديق، قلنا لهم إنها عقاقير طبية تخص التحصين».

الكثير من الآلام عزفتها آلة الحرب في اليمن،؛ إلا أن ريام ما زالت تعزف الأمل، مؤمنةً بأن الموسيقا هي لغة السلام، كما تسعى من خلال فرقتها وعزفها على آلة الطُّربي إلى إيصال رسائل مهمة، مفادها: «تبقى الموسيقا اللغة التي تربط جميع الثقافات»، مؤكدة سعيها لأنْ تكون سفيرة لآلة الطُّرْبي لتعمل على التعريف بها وبخصوصيتها في العالم.

   
 
إعلان

تعليقات