Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

تعدد الأصوات تقنية أدبية الهدف منها أن يتخلى المؤلف عن موقعه كقاضٍ وأن ينهض بدور المحامي.

معنى تعدد الأصوات أن يكف المؤلف عن لعب دور الديكتاتور، عن إصدار الأحكام على الشخصيات من علٍ، كإله أو ممثل لسلطة القانون، وأن يتحول إلى موقف مختلف جذريًّا، يُدافع فيه عن مختلف الشخصيات بلا استثناء، بحيث يعطي لكل شخصية الفرصة الكاملة لتترافع عن نفسها، وتبرر دوافعها، وتوضح رؤيتها الأصلية النابعة من ذاتها المستقلة عن ذات المؤلف.

الكلام أعلاه يبدو في منتهى السهولة، ويمكن لمؤلف مغتر بموهبته أن يجزم أنه قادر على ذلك الصنيع، ولكن الحقيقة أن بين كل مليون مؤلف هناك واحد فقط يمكنه فعلًا أن يخلع رداء القاضي ليرتدي زي المحامي عندما يكتب.

نعم هي تقنية بالغة الصعوبة، إن لم تكن شبه مستحيلة.. لأنه ليس مُتأتيًا لأيّ أحد أن (يخلق) مساحة في داخل روحه لآخر يتحرك فيها كيفما يشاء.

إن أبسط تطبيق لهذه التقنية هو أن يدافع المؤلف باستماتةٍ عن البطل السلبي في عمله، فمثلًا إذا كنا نكتب رواية فيها شخصية قاتل يغتصب الأطفال ويقطعهم أوصالًا ثم يتخلص منهم، فإن واجب المؤلف منحه الفرصة ليدافع عن نفسه ويبرر أفعاله، يجب أن نعطيه صوتًا ليتكلم ونفهم منه لماذا هو يتصرف هكذا.. بطريقة ما على المؤلف أن يغوص في الوحل بحثًا عن الجوهر المخفي عن الأنظار، ولو أدى ذلك إلى إلحاق الأذى باستقراره النفسي.. لأنه لا شيء يأتي دون ثمن. 

إذا كان المؤلف يكتفي بإدانة الشرير أو الأشرار في عمله دون الاستماع إلى وجهات نظرهم، فهذا أدب من الدرجة الثانية، يحوم حول السطح، ولا يذهب باتجاه الأعماق المجهولة للنفس البشرية.

يُعد فيودور دوستويفسكي مبدع تقنية تعدد الأصوات، والروائي الذي ذهب بها إلى حد الكمال الفني.

يقول عنه ميخائيل باختين في كتابه شعرية دوستويفسكي:

“يعتبر دوستويفسكي مؤسس تعددية الأصوات الحقيقية التي لم تكن موجودة وما كان بإمكانها أن توجد لا في “الحوار السقراطي” ولا في “الهجائية المينيبية” العتيقة، ولا في مسرحيات الأسرار الدينية في القرون الوسطى، ولا عند شكسبير وسرفانتس، ولا عند فولتير وديدرو، ولا عند بلزاك وهيوغو، ولكن تعددية الأصوات كان قد جرى التحضير لها بصورة جوهرية في هذا الخط من تطور الأدب الأوروبي، إن كل هذه التقاليد، ابتداءً بـ”الحوار السقراطي” والمينيبية، كانت قد انبعثت وتجددت عند دوستويفسكي في شكل جديد وأصيل لا مثيل له، خاص بالرواية المتعددة الأصوات”  ص262.

قبل دوستويفسكي، وحتى بعده، كان المؤلفون يظنون أن تعدد الأصوات في الرواية يعني هذه الزخرفة اللفظية التافهة المتمثلة في أن تتكلم كل شخصية بلهجة مختلفة عن الأخرى، أو بلغة تتناسب مع عمرها أو طبقتها أو مستوى تعليمها ونحو ذلك مما يلهج به الناقد قصير النظر أو القارئ المتحذلق، ولكن دوستويفسكي لم يكن يولي اهتمامًا لهذه التعددية اللفظية الجوفاء، لأن هدفه كان أبعد بكثير جدًّا من مجرد نقل ثرثرة منسوجة بإحكام لشخصيات مصطنعة، حوار بروتوكولي مُتحكم به من طرف مؤلف يتميز بالدهاء والاحترافية.

ما كان يهم دوستويفسكي حقًّا هو الحمولة الشعورية لكل كلمة تنطق بها شخصياته، تلك الطاقة النفسية المضطرمة الكامنة في الأعماق الخفية.. لقد كان فنه الأدبي مرهفًا إلى درجة اهتمامه بالنغمة التي تُقال بها الكلمة، وبالتعبيرات الظاهرة والمضمرة التي تشتمل عليها كلمة الشخصية.

يتوصل باختين إلى شرح هذه الخاصية بقوله:

“ليس لدى أبطال دوستويفسكي أبدًا تقريبًا كلمة يمكنها أن تكون خالية تمامًا من صراعات داخلية” ص 379.

أحد الروائيين ذكر أنه يستخدم تقنية تعدد الأصوات في رواياته، فتظهر شخصية تتكلم باللهجة الصنعانية، وثانية باللهجة التعزية، وثالثة باللهجة الحضرمية، وفي ظنه أنه بهذه المهارة اللفظية – مهارة تلقين شخصياته اللهجات اليمنية المحلية – قد أفلح في استخدام تقنية تعدد الأصوات، وبالطبع هذا فهم خاطئ، لأن المقصود تعدد الأصوات لا تعدد اللهجات، فالفارق بينهما كالفارق بين السماوات والأرض.

من تقنية تعدد الأصوات نشأ الأسلوب الأدبي الحديث (تيار الوعي) الذي يركز على الحوار الداخلي للشخصية.

وفي أعمال عباقرة الأدب سنجد أن هناك تعددًا للأصوات داخل الصوت الداخلي للشخصية نفسها.

على سبيل المثال، كيف فعل العبقري دوستويفسكي ذلك؟ سوف نجد في أعماله تقنية الاستباق في الحوار الداخلي: الشخصية تحاور أشخاصًا في خيالها، وتستبق إجاباتهم، ثم ترد عليهم!

هل كان دوستويفسكي واعيًا بالنقلة العظيمة التي أحدثها في مسار الأدب العالمي على مر العصور؟ الجواب موجود في رسالة بعث بها إلى شقيقه يحدثه فيها عن روايته “الناس الفقراء”:

“لقد اعتادوا – يقصد الجمهور والنقاد – أن يروا في كل شيء صورة المؤلف، أما أنا فلن أعرض عليه صورتي ولم يخطر ببالهم أن الذي يتكلم هو ديفوشكين، وليس أنا، وأن ديفوشكين لعاجز عن أن يتكلم بصورة أخرى. إنهم يجدون الرواية ممطوطة، بينما لن تجد فيها كلمة زائدة” ص 298-299.

التحدي الحقيقي لأيّ مؤلف، ويمكنني أن أسميه “تحدي دوستويفسكي” هو أن يسمح لشخصياته بالاستقلال عنه فكريًّا ووجدانيًّا، أن يسكت ليسمع كلامهم، وما أصعب أن يُسكت الإنسان نفسه بمحض إرادته لينصت للآخرين!

لعل أعظم مهارة امتلكها دوستويفسكي ليست الخيال الأدبي المجنح، ولكنها موهبة أبسط بكثير مما نتصور:

موهبة فن الصمت عندما تحضر شخصياته، لكي يسمعها بوضوح عندما تتكلم!

———————  

*شعرية دوستويفسكي: ميخائيل باختين، ترجمة د. جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1986.

*روائي وكاتب يمني

   
 
إعلان

تعليقات