Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*
بإمكان أيّ شخص ذكي الظهور في قناة تلفزيونية والحديث لمدة ستة أيام دون انقطاع عن أسباب الحرب في اليمن، فإذا كان محللاً سياسيًّا، فإنه سيقدم لنا تحليلات ألمعية ليتوصل في نهاية الأمر إلى أن الحرب في اليمن لها أسباب مذهبية ومناطقية تؤججها الصراعات بين القوى الإقليمية المتنافسة على النفوذ.. إلخ. لكن هذا النوع من التحليلات هو أقرب شبهًا بالتعليقات الرياضية التي تُقال أثناء مباراة كرة قدم تبث على الهواء مباشرة، وتنتهي قيمتها بانتهاء المباراة ومعرفة النتيجة.

حسنًا، ما هي الأسباب الخفية التي أدت إلى نشوب الحرب في اليمن؟ هناك سبب مهم قد لا يخطر ببال الكثيرين، هو المسؤول عن هذه الحرب وعن كافة الحروب والصراعات اليمنية – اليمنية الكثيفة في النصف الثاني من القرن الماضي، هذا السبب هو (الزيادة السكانية).

في عام 1803 أصدر الباحث السكاني والاقتصادي البريطاني (توماس مالتوس) كتابًا خطيرًا في أبعاده الفكرية عنوانه “بحث في مبدأ السكان”، وأشار فيه إلى أن السكان قادرون على مضاعفة عددهم مرة كل 25 عامًا، إذا لم تحل عقبات دون ذلك، أما الإنتاج الزراعي فلا يستطيع مواكبة هذه الزيادة، وقد استنتج حتمية النقص في المواد الغذائية واتساع رقعة الفقر نتيجة زيادة السكان.

وهكذا ظهرت نظرية مالتوس الشهيرة: عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية، بينما الإنتاج الزراعي يزيد وفق متوالية حسابية.

فعلى سبيل المثال إذا كان (س) يمتلك أرضًا زراعية في محافظة إب – وهي أخصب بقاع اليمن – وكانت تكفيه وتفيض، وأنجب عشرة أولاد، والأولاد العشرة أنجب كل واحد منهم عشرة أولاد، ومع افتراض الاحتفاظ بالأرض الزراعية، فإن عدد الأفراد من الجد إلى الأحفاد يبلغ عددهم مئة، فإن الأرض الزراعية لن تعود كافية لهم، وسوف ينشأ بينهم صراع حياة أو موت على غلة الأرض، لأن الأرض الزراعية لا تتكاثر بالطريقة نفسها التي يتكاثر بها البشر، وفي صراع البقاء سوف يفقد الأولاد الضعفاء وأحفادهم امتياز ملكية الأرض الزراعية، وسيجدون أنفسهم في قارعة الطريق مع ملايين الفقراء من أمثالهم.

لقد هاجم كارل ماركس والعديد من المفكرين الاقتصاديين توماس مالتوس، واعتبروه مفكرًا رجعيًّا، وقد صح ما حذّر منه أولئك المفكرون اليساريون، إذ أقدمت بعض الدول، وتحت تأثير أفكار مالتوس، على إخصاء قسم من السكان غير المرغوب في تكاثرهم، كما حدث في الولايات المتحدة التي قامت بالتعقيم القسري للفئات الأكثر فقرًا في المجتمع الأمريكي، الذين كانوا في غالبيتهم من السود والهنود الحمر، وبلغ عددهم وفقًا للقاضي الفيدرالي جيرهارد جيل حوالى مائة وخمسين ألف مواطن أمريكي سنويًّا، خلال الفترة من 1907-1962.

بصورة عامة تبنت معظم دول العالم أفكار توماس مالتوس، وقامت بالتدخل لخفض عدد السكان، وأبرز الدول التي استفادت من مبدأ مالتوس، هي الصين التي تُعد أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، والمفارقة أنها دولة شيوعية أيضًا، فقد سنّت قانون إنجاب طفل واحد فقط لكل أسرة، فتمكنت الصين من السيطرة على الانفجار السكاني، وتوصلت إلى مرحلة الاستقرار في النمو السكاني، وتوقف عدد السكان عند مليار وثلاثمائة مليون نسمة.

بالنسبة لليمن التي يربو عدد سكانها على الثلاثين مليون نسمة، فإن معدل النمو السكاني يتجاوز حاجز 3% سنويًّا، وهو من أعلى المعدلات في العالم، وهذا يعني أن اليمنيين قادرين على مضاعفة عددهم خلال ثلاثين عامًا أو أقل من ذلك، وتقديريًّا سيصل تعداد الشعب اليمني إلى 60 مليون نسمة بحلول عام 2050!

هذا رقم مخيف بالنسبة لشعب جائع يعتمد على المعونات الخارجية لإطعام نسائه ورجاله، وحتى إذا حل السلام والاستقرار فهل تستطيع الرقعة الزراعية المحدودة في اليمن إطعام 60 مليون نسمة؟ هل يمكن لليمن أن توفر لهذا العدد الضخم من السكان الخدمات التعليمية والصحية وفرص العمل والمساكن والكهرباء والمياه؟

يبدو عام 2050 بعيدًا، هكذا يبدو بالنسبة لقصيري النظر، ولكن بالنسبة للدولة المسؤولة عن تأمين مستقبل الأجيال، فإن هذه الفترة بالغة القصر، وكل يوم يضيع بدون تنمية سوف يُصعِّب المهمة على الدولة في قادم الأيام.

يفترض أن يكون لدى الدولة خطط استراتيجية لخمسين ولمائة سنة قادمة، لأن توفير الغذاء لستين مليون نسمة لن تكون مسألة سهلة بالنسبة لبلد مصنف ضمن البلدان شبه الجافة، وموارده المائية الجوفية في طريقها للنضوب، أو هي قد نضبت بالفعل في بعض المناطق.

الثورة التي اندلعت في عام 2011 والتداعيات التي أعقبتها، وأدت إلى الحرب الكارثية في عام 2015 المستمرة حتى اليوم، هي نتيجة حتمية للانفجار السكاني، الذي لم يقابله زيادة موازية في الرقعة الزراعية والتنمية الاقتصادية.

في عام 2011 بدا واضحًا أن الدولة اليمنية عاجزة عن توظيف المزيد من الشباب في مرافق الدولة لأسباب عديدة، منها أن ميزانية الدولةلم تعد قادرة على الدفع لأعداد جديدة من الموظفين، بالإضافة إلى أن الجهاز الإداري للدولة كان يعاني من تضخم شديد في عدد موظفيه، الذين تحول معظمهم إلى عمالة فائضة داخل مؤسسات الدولة.. وهناك ظواهر أخرى أدت إلى اندلاع ثورة الشباب في عام 2011 تحدث عنها بوضوح توماس مالتوس، كالنقص في المساكن، حيث تجاوزت الزيادة السكانية العالية قدرات اليمن على إنشاء مساكن جديدة لاستيعاب الملايين الجديدة من اليمنيين، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الدولة اليمنية منذ عام 1990لم تعد تساهم أصلاً في بناء مدن سكنية، فإن الاصطدام بجدار نقص المساكن كان أمرًا حتميًّا، وهو من الأسباب الرئيسية لنشوب الصراعات والحروب بين الفئات السكانية داخل البلد الواحد، ودائمًا تُغطَّى هذه الصراعات بغطاء سميك من الاختلافات الطائفية والإيديولوجية.. إن ظهور النزعة الانفصالية في الجنوب، وإضفاء صفة (الأجانب) على الشماليين، مرده النقص في المساكن وفرص العمل والغذاء، فهم يطبقون أفكار توماس مالتوس في إعادة توزيع السكان، لكي تكفي الموارد المتاحة لذلك العدد الحصري من البشر.

الصراع السني – الشيعي هو مجرد قناع مزيف، لأن الصراع في جوهره هو صراع على الموارد: الغذاء، فرص العمل، المساكن، الأرض.

ولو كانت موارد اليمن الاقتصادية وفيرة مثل دول الخليج، وحصل كل مواطن يمني على كفايته من الغذاء والسكن والعمل، فإن نار الحروب ستخمد من تلقاء نفسها، ولن يرفع يمني أصبعه في وجه أخيه.

لقد تحدث توماس مالتوس عن الحرب بوصفها أداة من أدوات (الطبيعة) لإعادة التوازن في عدد السكان، فالحروب والمجاعات والأوبئة والأمراض هي الأدوات التي تستخدمها (الطبيعة) لإبقاء الجنس البشري في حدود مقبولة، بما يتناسب مع الموارد المتاحة على كوكب الأرض.

العدد النموذجي لسكان اليمن الذي اختارته (الطبيعة) قياسًا إلى الموارد المتاحة هو 2.3 مليون نسمة فقط.. وكان هذا تعداد الشعب اليمني في عام 1900م.

وغالبًا استقر تعداد الشعب اليمني عند هذا الرقم منذ آلاف السنين، حيث كان معدل الزيادة السكانية حوالى 1% فقط، ثم تكفلت المجاعات والأوبئة والأمراض والحروب بإبقاء تعداد الشعب اليمني ضمن هذه الحدود.

نعم، يمكن لمليونين ونصف من السكان أن يعيشوا بانسجام ورخاء على هذه الرقعة الجغرافية، وأن يحصلوا على كفايتهم من الغذاء من الأرض الزراعية المتاحة لهم، دون أن يضطروا إلى استيراد القمح من أمريكا أو استراليا، ويمكنهم بسهولة أيضًا أن يحصلوا على مساكن لائقة وفرص عمل بأجور جيدة.

لكن أكثر من هذا الرقم، فإن توماس مالتوس سيقرع جرس الإنذار محذرًا!

في عام 1949 صدر عن الأمم المتحدة الكتاب الديموغرافي السنوي، وذكر أن عدد سكان اليمن قد بلغ آنذاك 4.5 مليون نسمة، موزعين كما يلي:

ثلاثة ملايين وستمائة ألف نسمة في الشمال، وتسعمائة ألف نسمة في الجنوب.

وعندما نفكر في هذا العدد من السكان مقارنة بموارد اليمن الضئيلة، فإن أيّ مفكر اقتصادي ثاقب الرؤية سيستنتج أن الحروب المدمرة قادمة لا محالة.. وهو ما حدث، إذ يعج النصف الثاني من القرن العشرين بعشرات الحروب الداخلية، وهي العلاج الأخير الذي تستخدمه (الطبيعة) للتخلص من فائض السكان.

إن استمرار الحروب اليمنية – اليمنية في القرن الجديد، هو تعبير عن رغبة (الطبيعة) في تخفيض عدد السكان، لأن مواردها لم تعد تكفي للجميع.

هل نعي هذه الرسالة ونفهم أن تكاثرنا قد تجاوز الحد الطبيعي؟؟

عندما بلغت الزيادة السكانية أوجَّها مطلع القرن الماضي في أوروبا، بسبب تحسن الرعاية الصحية للمواليد والأمهات، فإن الطبيعة عاقبتهم بالحرب العالمية الأولى التي حصدت منهم قرابة الستة عشر مليونًا، ثم شددت عليهم العقوبة بالحرب العالمية الثانية التي حصدت منهم أكثر من ستين مليونًا.

ولكن بعدها استوعب الأوروبيون الدرس، وخفضوا معدل المواليد وسيطروا على الزيادة السكانية وجعلوها مستقرة.

متى يستوعب اليمانيون درس الحرب ويدركون أن عليهم السيطرة على الزيادة السكانية، مالم فإن دورات الحروب لن تتوقف؟!

هناك توازن طبيعي في كوكب الأرض، وعلى اليمنيين أن ينظروا إليه باحترام وتفهم، وأن يحاولوا بإخلاص التوافق معه.

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات