Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*
ولد الروائي الأمريكي ستيفن كينغ في مدينة ماين عام 1947، وكتب حوالي مائة رواية، العديد منها وصل إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعًا، ومعظم رواياته تم تحويلها إلى أفلام سينمائية، وجميع تلك الأفلام التي اُقتبستْ من رواياته حصدتْ نجاحًا ساحقًا عند عرضها، وقُدِّر صافي ثروته بحوالي 400 مليون دولار أمريكي.

ينتمي ستيفن كينغ إلى ما يُسمى بـ(الروائيين الشعبيين)، وهو يُصنف نفسه ضمن هذه الفئة في كتابه “مسيرتي في التأليف”(1).

والرجل رغم امتلاكه لثروة لا يحلم أيّ روائي عربي بامتلاكها، فقد وصف نفسه بأنه كاتب “جيد” فقط، وليس عبقريًّا، وبدا أنه مقتنع بموقعه هذا، فالمال الوفير لم يطمس بصره عن رؤية حقيقته الذاتية، وهذا جوهر التواضع، أن يعرف الإنسان حدوده.

باع ستيفن كينغ 350 مليون نسخة من رواياته، وأصبح أشهر من يكتب أدب الرعب، ولنا أن نتخيل مدى التأثير الذي مارسه هذا الكاتب وأمثاله من الروائيين الشعبيين على أجيال من الشباب في الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الناطقة باللغة الإنجليزية، هذا بالإضافة إلى أفكاره التي تسللت عبر الأفلام السينمائية المقتبسة من رواياته، وشاهدها العالم كله.

في الغرب، الروائي الشعبي “الجيد” بحسب وصف ستيفن كينغ، تتهافت عليه دور النشر وتقدم له عروضًا مالية لا تصدّق، وهو نفسه حدث له شيء مشابه، إذ كان يعمل مدرسًا في مدرسة ثانوية بأجر زهيد، ويعاني من وطأة الفواتير والديون، وفجأة يأتيه اتصال من إحدى دور النشر تخبره بموافقتها على نشر روايته “كاري” وتعرض عليه دفعة مسبقة قدرها 400 ألف دولار، ويقول إن زوجته لم تصدق الخبر وعندما تأكدت من جديته انهارت باكية.

الروائي الشعبي “الجيد” في أوروبا وأمريكا هو بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبًا، وهناك جمهور عريض جدًّا من القراء المولعين بقراءة هذه الأعمال.

يكتشف الروائي الشعبي موهبته منذ البداية من خلال تفضيلاته في صباه، فستيفن كينغ يذكر أنه كان مولعًا في سنوات مراهقته بمشاهدة أفلام الرعب، الخيال العلمي، أفلام عصابات المراهقين، أفلام عن الفاشلين على دراجات نارية، وكان مهووسًا بقراءة مجلات الكوميكس، وبحسب زعمه فقد قرأ أطنانًا منها.

يبدو أن الروائي الشعبي يحسم خياراته منذ وقت مبكر، فمثلًا ستيفن كينغ بدأ بكتابة قصص أدب الرعب وهو في سن الرابعة عشرة، وهو مدرك أن الأدب الجاد قد لا يُحقق له الحياة الطيبة التي ينشدها.. يقول حول هذه النقطة: “تبًّا، معظم العباقرة غير قادرين على فهم أنفسهم، والعديد منهم يعيشون حياة بائسة”.

وهذه حقيقة مؤلمة، فهمها ستيفن كينغ منذ بداياته، وأدرك أن الأدب الجاد في معظم الحالات لا يجلب لصاحبه المجد إلا متأخرًا جدًّا، أو قد يطويه الثرى ولم يسمع به أحد. 

لا يكترث الروائي الشعبي بـ(اللغة)، وهو يتعامل معها كأداة لتوصيل قصته لا أكثر، فلا يصرف وقتًا في صقل عباراته، ولا يأبه بمنح الجمل التي يكتبها صلابة الألماس.. إنما الكلمات عنده كالفحم الذي يشتعل ليضيء الفكرة.

وكما لاحظ ستيفن كينغ، لا أحد يسأل الروائي الشعبي عن (اللغة) سواءً في الحوارات الصحفية أو في الندوات واللقاءات العامة.. وهذا أثار امتعاضه، وقد أورد عدة صفحات في كتابه المذكور آنفًا يشرح فيه أسلوبه اللغوي.. بالطبع هو يشدد على الالتزام بالقواعد النحوية والإملائية في الكتابة، وعلى التخلص من النعوت الزائدة، وحذف ما ليس ضروريًّا.. وهذ شيء يتقنه أيّ صحافي جيد بسهولة، ولكن الذرى العليا لـ(اللغة) لم تكن في وارد حسابه، ولا أحسب قراءه سيقبلون على شراء كتبه -وهم شريحة غالبيتها من الفتيان والشبان وربات البيوت – إذا كتب بلغة أدبية رفيعة تقترب من لغة وليم فوكنر أو جون شتاينبك.

من صفات الروائي الشعبي الغزارة في الإنتاج، وبما أن صياغة الجملة وانتقاء المفردات وضبط الإيقاع اللغوي مسائل لا تعنيه، فهذا يعطيه مجالًا لإنتاج رواية في بحر أسبوعين مثلًا، وقد تصدر له في السنة الواحدة روايتان أو ثلاث.

ألَّف إسحق عظيموف، وهو من أفضل مَن كتب أدب الخيال العلمي، حوالي 500 كتاب، وأنتجتْ أجاثا كريستي ملكة الرواية البوليسية 80 عملًا أدبيًا.

والنصيحة التي يوجهها ستيفن كينغ للمؤلفين الشبان هي: اقرأ كثيرًا، اكتب كثيرًا. وهو شخصيًّا كان يقرأ ما بين 70-80 كتابًا في السنة.

ولديه نصيحة ثمينة لمن يريد أن يتخذ من الكتابة مهنة له: “القراءة هي مركز الإبداع في حياة الكاتب”.

بالنسبة لنصيحة “اكتب ما تعرفه” الذائعة الصيت بين الكُتاب، فإنها لا تنطبق إلا بصورة فضفاضة جدًّا على كُتاب أدب الرعب والخيال العلمي وروايات الجرائم والغموض والتشويق والإثارة، فالمطلوب هنا إطلاق العنان للخيال إلى أقصى مدى، والتجارب الشخصية للمؤلف ستكون محدودة حتمًا، ولابد من ابتكار عوالم وأحداث من العدم، ما لم فإن هذا النوع من الأدب سيبدو بائسًا وفقيرًا للغاية.

هذه إذًا سمة من سمات الأدب الشعبي: الروائي الشعبي لا يتكئ على تجاربه الشخصية، ولكنه بارع في التخيل.

المفاجأة أن ستيفن كينغ يقلل إلى أدنى حد من أهمية (الحبكة)، وهو يدعو المؤلف المبتدئ إلى اتباع (حدسه) أثناء الكتابة، وعدم إيلاء الحبكة كثير أهمية.. ومن يقرأ الروايات الشعبية الطابع – باستثناء الروايات البوليسية – سوف يلاحظ وجود ثغرات في الحبكة، ولكن ما هو مهم هنا هو متعة (القصة)، ولو أتت هذه المتعة على حساب حبكة غير متقنة.

لدى ستيفن كينغ رأي سلبي بشأن الحبكة: “أعتقد أن الحبكة هي الملجأ الأخير للكاتب الجيد، والخيار الأول للكاتب المغفل. القصة التي ستنتج عنها ستبدو اصطناعية ومفتعلة”.

كما نلاحظ فإن الروائي الشعبي لا يضيع وقته في تدوير زوايا الحبكة، أو التأكد من خلو حبكته من الثقوب، أو ابتكار حبكة غير مسبوقة، ولو فكر أن يفعل ذلك لاقتضى منه الأمر شهورًا طويلة أو سنوات، وهكذا سيفقد قدرته على الكتابة العفوية ذات الإيقاع السريع، وربما وجد نفسه عاجزًا عن التقدم في نهاية الأمر ويهوي إلى قاع سحيق من الفشل.

لا يهتم الروائي الشعبي بوصف الشخصيات، مثل مواصفاتها الجسدية، وماذا تلبس ونحو ذلك، ولكنه يعوض ذلك بتفاصيل قليلة مختارة جيدًا ليطلق العنان لخيال القارئ لتصور الشخصية.. وبصورة عامة الرواية الشعبية لا تُعطي مساحة لـ(الوصف) والتفاصيل، وتركز فقط على مسار القصة.

هذه الأحكام العامة لا تنطبق على كل الروايات الشعبية، فهناك استثناءات، حتى بالنسبة للكاتب الواحد، فهناك أعمال استثنائية ترقى إلى مستوى الأعمال ذات القيمة الأدبية الرفيعة.

عربيًّا ينتمي إلى فئة الروائيين الشعبيين أمثال أحمد خالد توفيق صاحب سلسلة ما وراء الطبيعة، د. نبيل فاروق صاحب سلسلة رجل المستحيل، أحمد خالد مصطفى مؤلف رواية انتيخريستوس، وآخرون.

وعالميًّا ينتمي إلى هذه الفئة الكاتب الأمريكي جورج مارتن، مؤلف سلسلة روايات “أغنية الجليد والنار”، التي حُولت لاحقًا إلى المسلسل التلفزيوني الشهير “صراع العروش”، وثروته تتخطى مئات الملايين من الدولارات، ووضعته مجلة التايم في قائمتها لعام 2011 كأكثر الأشخاص نفوذًا وتأثيرًا في العالم.

وكذلك الكاتبة البريطانية ج. ك. رولينغ مؤلفة سلسلة روايات هاري بوتر، التي تجاوزت ثروتها المليار دولار، وأُدرجت كتبها ضمن قائمة الأكثر مبيعًا في التاريخ.

قد يذهب الظن بالبعض إلى أن وصف أديب ما بأنه “روائي شعبي” فيها حط من قدره، وتقليل من موهبته، ولكن في البلدان المتقدمة، لا يشعر الروائي الشعبي عندما يوضع ضمن هذه الفئة أنه قد أُهين أو فقد أهليته ليكون ضمن معشر الأدباء.. كل ما هنالك أنه يكتب النوع الأدبي الذي يحبه وكفى، ولا يهمه بعد ذلك أين يضعه النقاد، ولا كيف ينظرون إليه.

لذلك على الروائي العربي الشاب ألا يخشى من مطرقة النقاد ويجبر نفسه على كتابة الأدب الرفيع القيمة لإرضائهم، وإنما عليه أن يكتب عن الأشياء التي يحبها، وأن يلعب في الملعب الذي يناسب قدراته، فليس معقولًا أن يتجه آلاف من الروائيين العرب ليكونوا نسخة من نجيب محفوظ مثلًا، والجميع يكتبون أدبًا جادًّا، فهذا نوع من القتل الذاتي للموهبة الأصلية للفرد.. وقد يخنق أحدهم موهبته في كتابة رواية كوميدية خشية أن يوصم بأنه أديب شعبي!

يجب أن تتغير خارطة الإبداع الروائي العربي لتتسع لروايات أدب الرعب والخيال العلمي والجرائم والفانتازيا المغرقة في الخيال، جنبًا إلى جنب مع الروايات المغرقة في الواقعية التي تشبعت بها الذائقة العربية.

—– 

  1. مسيرتي في التأليف (مذكرات هذه الصنعة): ستيفن كينغ، ترجمة أوليغ عوكي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2019.

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات