Accessibility links

استفهاميات: صنعاء الزحام.. الغلاء.. والاستهلاك!


إعلان
إعلان

عبدالله الصعفاني*

 

كلما سمعت عبارة لا يجمع الله بين عُسرين أوقعتني سِكِّينة الدهشة في قاع التساؤل حول سرّ هذا التعايش الشعبي اليمني مع العسرين والثلاثة.. والأربعة.. وربما الخمسة؟

شعبٌ لم يخرج رسميًّا من حالة تدمير خارجي أتت على الكثير من مقدرات مئة سنة، ولم تستثنِ حتى المعالم التأريخية.

شعب يعاني من احتراب بين الأخوة الأعداء لحسابات ليست أبدًا فوق مستوى شبهات الولاء الخارجي الاستعباطي الذي لم يخدم حاضر اليمن وطموحات أجياله، وانقطاع مرتبات، وغياب خدمات المؤسسات الحكومية، وتداعيات تدنِّي الوعي بمخاطر اجتماع مشاكل الغذاء والدواء مع التهور بشأن الأوبئة، ومع ذلك يتعايشُ مع أوضاعه المعيشية المعقَّدة، بل ويخرج لسان السخرية المتوجعة المتلذذة على طريقة (المولعي)، وهو يمد يده الى أوراق القات من كيس بلاستيكي غير عابئ بكيماويات انتهى تأريخها الافتراضي، بل وصارت سمومًا مسمومة..!

هل سمعتم عن السمّ عندما يكون مسمومًا..؟

يحدثُ هذا في اليمن..!

والمثير للدهشة أنّ هذه الأوجاع لم تكن كافية للتأثير على حركة الشوارع وزحام الأسواق في أيام رمضان والعيد وما بعدهما على النحو الذي لا يمكنُ لك إلا أنْ تتوقف أمامه ولو بخواطر مؤجلة عن حالة متجددة.

في أواخر رمضان حاولتُ كسر حالة الملل وتوجهت إلى صنعاء القديمة من بوابة الزُّمُر، واقول الزُّمُر حتى أتهرب من العبارة العدمية الشهيرة (كُب إلى شعوب..).

وعلى رأي جَدِّي الله يرحمه: (سبحان الكافي لعبده العاصي).

هناك وخارج ما عرفناه من التقسيم الحضاري لصنعاء بين أسواق للبيع والشراء وأحياء السكن.. إلخ.. بدت المشَاهِد نسخة طبق الأصل من الطواف حول الكعبة في زمن ما قبل كورونا.. دكاكين مستحدثة أو أنها لم تكن تلفت نظر الزائر سابقًا.

وبسطات من الكثافة بحيث تجعل الزحام الاضطراري بين الرجال والنساء على أشدّه،

ولا عاصم لك إلا بالمزيد من التوغل في أوساط المتزاحمين، ولا بأس أن استقَرَّ بك الحال في أحد جوانب السايلة رغم أنك حددت باب اليمن مكانًا لخروجك إلى شوارع لا تقل ازدحامًا وضجيجًا.

لم يكن الزحام وحده هو المشكلة، وإنما صارت الممرات من التشابه والتكدس بالبضاعة المعروضة على اصوات مايكرفونات لا تتوقف إلا عندما يزوِّدها الباعة ببطاريات جديدة تحافظ على نفس الدوي.. وذات الإزعاج الذي يجعلك تستحضرُ نصائح أطباء مما يسمونه بالتلوث السمعي.

ولا تستغرب إذا وجدت نفسك، وقد تقمَّصت حالة سائح، وأنت تظل حتى طريقك المعهود  الى (مقهى ورده) الذي تزوره مرة كلّ أسبوع؛ لأنّ كلّ شارع وزقاق مكدَّس بمعروضات  يغلب عليها الطابع المناسباتي.

أما علامات الاستفهام التي تصاعدت في رأسي في ذلك الوقت فكانت شديدة الحساسية ومفخخة بفضول ربما غير مقبول توجيهه إلى بعض المتزاحمين كأنْ تقول بفجاجة: من أين الفلوس وقد اتفقت الأطراف على إمكانية العيش في اليمن بلا معاشات أو متقطعة، أو.. هاه.. شكلك أخرجت الفلوس من تحت البلاط.. وجدت نفسي اجترح شكلاً هروبيًّا جديدًا في السؤال حتى لا أكون ذلك الذي يسأل عمّا لا يعنيه فيلقي ما لا يرضيه.

وقد اهتديت إلى صيغة سؤال يمنع عواقب الفضول الذي قتل الغشمي، وفي نفس الوقت يرضي الجميع.

اخترت أنْ أسأل بهذه الطريقة:

تقول يا صاحبي ليش هذه الزحمة رغم كل هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة..؟ والحق أن الإجابات كانت معقولة ومهضومة، فهذا يتحدث عن بقايا بيع مدخرات وذاك عن تحويلات مغتربين وثالث عن دورة اقتصاد القات، ورابع عن اليمني المرزوق، وخامس يذكرك بالآية القرآنية )وما من دابّة في الأرض إلا على الله رزقها( وسادس يُذكِّرك بما جاء على لسان سائحة غربية عقب دخولها في مقارنة عجيبة بين موظف يمني بدخل محدود، ويصرف بلا حدود..!

ولا ينتهي المشهد المزدحم بحلول العيد، وإنما يتواصل.. شوارع مزدحمة.. حدائق أكثر ازدحامًا.. الضواحي بمقايل مضغ قات على حواف الجبال.. وتحت كل كهف، وفوق كل نتوء، وعلى كل شاهق وداهق.

وقوارب شراعية في أحد السدود تنقل الراغبين في جولات على صفحة الماء وبآلاف الريالات للدقيقة الواحدة… ولاعب كرة يتعرض للغرق، وكلها مشاهد تحتاج إلى وقود في زمن التهبت فيه أسعار المشتقات النفطية تجاوزت كل الحدود.

على أنه لا يمكن إغفال مسألتين، صلابة اليمني وقوة شكيمته وصبره، ومحاكاته للنمل في طرْق أيّ خزق للرزق، ومعاناة قاعدة عريضة من المستورين بالتعفف والمعاناة في بيوتهم لا أحد في الحكومتين الافتراضيتين يعترف لهم بنصيب في البلاد، وهذه الأغلبية من الذين يقعون في خط الفقر وما تحته يفرضون من وجهة نظر أخلاقية وإنسانية سرعة التقاء فرقاء السياسة والحرب على طاولة حوار تسدل الستار على كوارث ترفض التوقف وتلجم هلع تجار الصراعات ومثيرو الفتن.

والخلاصة كان في مشاهد المدن اليمنية وصنعاء تحديدًا من صور الزحام والتكدس والأنماط الاستهلاكية اللافتة ما ذكَّرني بسائق التاكسي المصري الذي أوصلني من مطار القاهرة في ذروة الزحمة وصار بصعوبة يتجنب  المارة المتطايرون أمامه في كل اتجاه، وكان أبرز ما أدهشني هو قوله في حالة ضيق وانفعال من زحام الشارع وعشوائيته:

(سبحان الرزاق ذُول بيناموا فين، وبيأكلوا مِنِين..؟؟)

 

*كاتب يمني

   
 
إعلان

تعليقات