Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*
في السادس والعشرين من سبتمبر 1962 قام شباب يمنيون تلقوا تعليمهم في الخارج بثورة ضد النظام الملكي، وأعلنوا قيام النظام الجمهوري.

لقد توهم هؤلاء الشباب المتحمسون أن مشكلة اليمن تكمن في فرد واحد هو الإمام، أو في العائلة المالكة بيت حميد الدين، وأن الإطاحة بهذه العائلة سيكون كافيًا لإحداث النهضة في اليمن.

لكن القادة السبتمبريين الحقيقيين – وليس أولئك القادة الانتهازيين – قد لاحظوا أن مشكلة اليمن أعمق بكثير مما كانوا يظنون.. وأن هناك تحديات داخلية تحول دون إنجاز مشروع تحديث اليمن.. وأن العالم الخارجي ليس مثاليًّا، ولكنه غابة يتسلط فيها الأقوياء على الضعفاء.

لما استلم الرئيس الجمهوري الأول عبدالله السلال مقاليد الحكم، لاحظ وهو يقوم بتصريف أمور الدولة، أن الخلل في الشعب، وأن الثورة الحقيقية لم تحدث بعد..

وهذا ما لمسه الرئيس الجمهوري التالي القاضي عبدالرحمن الإرياني، الذي أدرك أن الإمامة ليست سبب التخلف، ولكنها نتيجة التخلف، وأنه إذا لم يمر الشعب بتغيير حقيقي فإن النتائج ستكون متشابهة، وتغيير وعي الشعب لن يحدث بين ليلة وضحاها، أو ببيان يُتلى من الإذاعة، ولكنه تغيير بطيء يحتاج إلى جهود جبارة متصلة على مدى زمني طويل. لقد قادته حصافته وضميره الحي إلى تفضيل الاستقالة من منصبه كرئيس للجمهورية، على الاصطدام بعقليات غير ناضجة. لقد عرف أن النضج العقلي للشعب اليمني ما يزال بعيد المنال، ومحاولة إحداث هذا “النضج السياسي” بالقوة لن تؤدي إلا إلى حرب أهلية طاحنة تأكل الأخضر واليابس.

لقد أراد الرئيس الجمهوري الثالث الشهيد إبراهيم الحمدي إصلاح الخلل الذي وقعت فيه ثورة 26 سبتمبر، وبذل جهدًا عظيمًا في محاولة تطبيق مبادئ الثورة، وخصوصًا فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، لكن العقول اليمنية غير الناضجة التي هي انعكاس لوعي الشعب وقتذاك وقفت له بالمرصاد، بما في ذلك بعض قوى اليسار التي حصلت على تعليم رفيع المستوى، وانتهى العصر الذهبي للجمهورية بإزاحة الرئيس من المشهد بطريقة مؤلمة.

تميز أسلوب الرئيس الجمهوري الخامس علي عبدالله صالح في الحكم بمبدأ مجاراة “الوعي الشعبي” وعدم الاصطدام به، مستوعبًا الدروس من الرؤساء الذين سبقوه في الحكم، وهكذا تمكن من حكم اليمن أزيد من ثلاثين عامًا.

ثم كرر الشباب اليمنيون سوء التقدير ذاته في عام 2011 عندما ظنوا – عن حسن نية بالطبع – أن مشكلة اليمن هي في شخص علي عبدالله صالح وعائلته، وأن إزاحته من منصبه ستكون كافية لإحداث النهضة المنشودة، ولم يخطر ببال أيّ واحد من أولئك الثوار أن المشكلة ليست في الحاكم فقط، ولكن في المحكومين أيضًا، أيّ فيهم هم أنفسهم، وأن علي عبدالله صالح ليس السبب، ولكنه النتيجة! وإذا لم نُغيِّر الأسباب فإن النتائج لن تتغير، وهذا ما أثبتت صحته الأحداث الجسام التي مرت بها اليمن منذ عام 2011 وحتى اليوم.

أصدق من أشار إلى هذا الخلل في “وعي الشعب” هو الشاعر مطهر الإرياني الذي عبّر عنه ببيت في قصيدة كتبها عام 1968 يقول فيه: 

“يا قافلة عاد المراحل طوال،

وعاد وجه الليل عابس”.

الشعب هو المبتدأ ونظام الحكم هو الخبر، ولكن من يقفز مباشرة لتغيير الخبر لن يحصل إلا على تغيير شكلي ينتهي بكارثة.

قبل ثورة 26 سبتمبر كان القرار السيادي في اليمن الشمالي مستقلاً، لكن بعد قيام الثورة وأثناء الحرب الأهلية أصبح القرار السيادي اليمني مرهونًا بالقاهرة، وبعد انتهاء الحرب الأهلية وإحلال السلام أصبح القرار السيادي اليمني مرهونًا بالرياض.

من الأمور غير المنطقية أن يطالب شعب غير ديمقراطي بنظام حكم ديمقراطي!

الإنسان اليمني العادي لا يلاحظ سلوكه.. مثلاً في السويد عندما تذهب إلى أحد الأفران ستجد المواطنين يقفون في الطابور لشراء الخبز، ولا أحد يجرؤ على تجاوز الذي قبله في الدور، وقس على هذا في جميع أحوالهم. ولكن في اليمن ستجدهم في الفرن يتزاحمون بطريقة عشوائية، وكل واحد يريد إزاحة الآخر ليحصل على الخبز أولاً قبل الآخرين، مع أن الخبز يكفي للجميع. وعلينا أن نلاحظ أنفسنا كيف نتزاحم عند سلم الطائرة، وكأن المتأخر لن يحصل على كرسي، وسيسافر متعلقًا بباب الطائرة! وعندما كان الرئيس السابق علي عبدالله صالح يدعو كبار المسؤولين والوزراء إلى القصر في المناسبات الوطنية، كان يسخر منهم حين يراهم يتهافتون على التورتة وكأنهم مشردون من الشوارع لم يشاهدوا في حياتهم طعامًا، وكان بعضهم لا يصبر أن يحصل على سكين، فكان يغرز أصابعه في التورتة وينتزع هبرة منها، وبعضهم كان ينسى الإتيكيت تمامًا ويدس قطعًا من التورتة في جيوب معطفه!

إن مراقبة سلوك وأخلاق المواطن السويدي العادي ستقودنا إلى استنتاج نظام الحكم الذي يتمتع به، وهو نظام حكم ديمقراطي يضرب به المثل في النزاهة والعدالة الاجتماعية والحرية السياسية.

لكن مراقبة سلوك وطباع المواطنين اليمنيين العاديين ستدلنا أيضًا على نوعية نظام الحكم الذي سينتج عنهم، ومن هم الحكام المناسبون لهم.

وتنسب لمحسن العيني أحد أفضل من شغل منصب رئيس الوزراء في اليمن مقولة بما معناه، إن الشعوب العربية لا تستحق حكامًا ممتازين، ولكنها تستحق حكامها الحاليين لأنهم على مقاسها بالضبط.

وهي مقولة توصل إليها بعد تجربته السياسية المريرة في منصب رئيس الوزراء لخمس مرات (1967 – 1972) وفشله في تمرير مشروع النهضة والحداثة والتنوير في اليمن.

الديمقراطية هي سلوك شخصي أولاً، أنت تريد من الحاكم أن يقبل بالرأي والرأي الآخر، بينما أنت لا تقبل إلا رأيك، وترفع صوتك على من يخالفك الرأي، وربما لو لديك سلطة لاقتلعت رأسه عن جسده لأنه لا يتفق معك في الرأي! أنت تطلب من الحاكم أن يصعد إلى الحكم عبر انتخابات نزيهة ليس فيها غش أو احتيال على الأصوات، بينما أنت تستخدم الغش والاحتيال في جميع أمورك اليومية! هناك من يحمل شهادات جامعية مزورة، وهناك من يحمل شهادات ماجستير ودكتوراه مشتراة من جامعات تجارية لا قيمة علمية لها.. ومع الأسف هناك آلاف من الطلاب في اليمن ينجحون بالغش، ثم يأتي هذا المواطن الذي نجح في دراسته الابتدائية والثانوية عن طريق الغش، ويطالب بانتخابات عامة ديمقراطية خالية من الغش!!

على الفرد أن يصلح نفسه أولاً، وبعدها يحق له أن يطالب بإصلاح النظام العام، عليه أن يكون مستقيمًا لكي يستقيم الحاكم أيضًا، فهذا الحاكم هو نتاج المجتمع، وثمرة التطور العقلي والأخلاقي للشعب.

هل يمكن لجنرال في الجيش البريطاني أن يقوم بانقلاب عسكري ويحكم بريطانيا بقبضة حديدية؟ نعلم أن هذا غير ممكن، لأن الشعب البريطاني قد بلغ مرحلة عالية من النضج العقلي والتطور الأخلاقي والوعي الحقوقي، بحيث لن يسمح لشخص مصاب بجنون العظمة أن يقوم بفعل كهذا.. ولو وجد مثل هذا الجنرال المتعطش للسلطة فإن الجنود سيرفضون أوامره، وسيلقون عليه القبض، وسيخضع لمحاكمة عسكرية تضع حدًّا لتجاوزاته.

لقد حظر الإمام دور السينما، ثم جاءت الثورة وسمحت بفتح دور السينما. ولكن ما هي أخبار صالات السينما الآن؟ نحن الآن في عام 2021 وجميع دور السينما مغلقة.. هل ما يزال الحظر ساري المفعول في عموم محافظات اليمن حتى يوم الناس هذا؟ بالتأكيد الإمام قد مات، ولكن العادات والتقاليد والوازع الديني ما يزالان يحملان الموقف نفسه من صالات السينما.. لماذا المجتمع اليمني ينظر للشاب الذي يذهب إلى السينما لمشاهدة فيلم أنه منحرف؟! وماذا سيقول عن الفتاة التي تذهب إلى السينما؟؟ في الهند تعد السينما ركنًا من أركان المجتمع، ومصدرًا للفخر القومي، وفي جميع دور السينما الهندية، مهما كانت متواضعة، يتم عزف النشيد الوطني قبل بداية العرض، ويقف الجمهور احترامًا للنشيد الوطني الهندي.

علينا أن نلاحظ الفرق بين عقلية الهندي وعقلية اليمني بشأن السينما، الأول يعدها غذاءً للعقل والروح، بينما الثاني ينظر إليها نظرة دونية.. لذلك تتقدم الهند إلى نادي الدول العظمى بخطوات واثقة، بينما تنزلق اليمن إلى مستنقع الدول الفاشلة.

إذا أردنا الخروج من هذه المتاهة التي ندور فيها منذ قرون، فإن علينا العمل بوصية المهاتما غاندي:”كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم”. أيّ ابدأ بنفسك أولاً.

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات