Accessibility links

إعلان

فكري قاسم*
طرت من غرفة إلى غرفة داخل بيت جدي في حلم جميل، استيقظت منه وأنا مش في مرقدي المعتاد إلى جوار أمي، بينما كنت صغيرًا أخاف من الظلام في تلك الأيام، وأخاف من النوم لوحدي.

ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة على أية حال التي أطير فيها وأنا راقد. طرت لمرات كثيرة من بعد ذلك في الأحلام، وبطرق مختلفة في التحليق.

مرة أمشي بالجو فوق رؤوس المارة والسيارات من شارع إلى آخر، وأشاهد الناس من تحتي جماعات وأفرادًا يسيرون على الأرض، ويلوحون لي بأيديهم ورؤوسهم مقبّعة تجاهي في العلو وكأنهم يشاهدون صبيًّا طائرًا يمشي على قدمين في السماء.

ومرة أطير فوق أسطح الأبنية والبيوت في الحارة، وأتنقل بين النوافذ والقمريات بجناحي عصفور يهتف بأسماء كل جار يخرج من باب بيته ويحط الرحال أينما وجد الطعام والماء والأصحاب المحببين.

وكان جسم الطائرة بالنسبة لي أول عملاق مدهش شافته عيوني، وتمنيت لو أنني أستطيع أن ألمسه في أيّ حلم على الطاير. وكان عباس بن فرناس عندي هو أول إنسان غريب أسمع عنه، وأشعر بأني أعرفه، وأن بيني وبينه علاقة وطيدة، 

وفي تلك المرحلة من التحليق أيّ واحد كان يسألني:

–  أيش تشتي تقع لما تكبر؟ 

أقوله على طول:

– طيار 

وسارت العشر السنوات الأولى من عمري على أية حال، وأنا العب بالرنج مع عيال الحارة، وهات يا شخططة، هم يكتبون عرض جدران الأمنيات “مع تحيات المهندس فلان الفلاني”، و”تحيات الدكتور فلان بن فلان”، وأنا أكتب حلمي بكل ثقة عرض كل جدار وعرض باب سقف بيتنا “مع تحيات الطيار فكري”، وكان باب السقف  المصنوع من حديد مطلي برنج أبيض هو عندي باب قمرة طيارة أحلامي.

ولم يكن هناك ما يسعدني أكثر من أن أسمعهم في الحارة يقولوا:

– الحُجاج سايرين مكة، هيا نسير المطار نودعهم.

– الحجاج راجعين من مكة هيا نسير نستقبلهم في المطار. 

 

وكبرت من بعد ذلك وأنا مولع وشغوف جدًّا بفكرة الطيران، وأحب كل شيء في الأرض له علاقة بالتحليق في السماء، وحلمي ومنى عيني أن أكمل الثانوية وبعدها أروح أدرس الطيران المدني، ولكن أحلام الفقراء وأمنياتهم تطير واحدة بعد أخرى، تاركة لأصحابها الهبوط الاضطراري في مجالات أخرى غير اللي كنت تشتي تكونها، أو كان بنفسك التحليق معها. 

وتمنيت من بعدها لو أن أحظى بأيّ عمل له علاقة بالطيران، ولو حتى أشتغل في المطار مودّع يبكي على كل المسافرين اللي ما فيش معاهم من يودعهم في المطار، ولا في معاهم من يبكي عليهم أثناءالمغادرة، ولكن حتى وظيفة البكاء في وداع المسافرين كانت تشتي لها ظهر، وأنا ظهري عباس بن فرناس! 

وأصبح حلمي من بعد ذلك أن أركب طائرة فقط، وأن أعيش متعة التحليق في الجو كمسافر من جيز الناس، وتحقق لي ذلك في الجامعة، وحظيت لأول مرة في حياتي بأول رحلة طيران، وما رقدت من شدة الفرح يومذاك، وطول الليل وأنا وقلبي طايرين في السماء. وكان الطريق عندي إلى المطار لكأنه الطريق من القاع إلى القمة.

وحبيت المطار، وشكل التذاكر، كراسي انتظار المسافرين في صالات المغادرة والوصول، وحبيت كبينات موظفي جوازات المطار، وحبيت حمّالي حقائب المسافرين، وحبيت باص نقل الركاب إلى مدرج الطائرات، وحبيت صوت قرقعة الأقدام فوق سلم الصعود إلى بطن الطائرة.

حبيت ملابس الطيارين وأشكالهم وأناقتهم، وحبيت مهابة كابتن الطيارة، وحبيت جمال وأناقة المضيفات وتسريحات شعورهن، وتمنيت لو أن أجلس في قمرة القيادة، أو أمسك هاتف الطيارة في يدي وأقول للركاب عبره، وانا منتشي: 

– أهلاً بكم على متن طيران اليمنية.. ونحن نحلق الآن على ارتفاع 11 ألف قدم، أو أي هدار من ذلك الذي يقال للركاب في الجو.

حبيت لحظات الهبوط والإقلاع، وأصبح حلم الطيران عندي كمسافر رفيقي الدائم كلما شفت ناس رايحين المطار أو راجعين منه أو ماشين من جنب مكتب سفريات وسياحة، وأتمنى لو أكون طاير معهم في الجو إلى أي وجهة يذهبون إليها تحت أي سماء مش مشكلة، المهم أطير وأبيّض وجه عباس بن فرناس.

وتحقق لي شيء يسير من أحلام التحليق في الجو، وعرفت الطيران الحقيقي على أصوله وفق التقاليد اليمنية الشهيرة التي تطرحك وتطرح أبوك أرض، ووجدت أن كل شيء طار بي في الأحلام يطير مني ويذهب بعيدًا عني بلا أيّ حساب لأحلام الفتى الطائر. 

البنت اللي حبيتها وأنا طالب في الجامعة طارت مني لأني لم أكن أفهمها وهي طايرة!

فرصة العمل في الفضائية اليمنية التي كنت الأجدر بها من واقع امتحان القبول، طارت مني وذهبت لآخر غيري معه وساطة طيرتني من كشف أسماء المقبولين! 

توظفت من بعد ذلك محررًا صحفيًّا في مؤسسة الجمهورية للطباعة والنشر، وخلال ظرف وجيز من المثابرة في الكتابة نجحت وحلقت باسمي عاليًا، ولكن النجاح في اليمن مشكلة كبرى وضعت العراقيل في طريق تمكيني من العمل لأسباب متعلقة بمخاوف رئيس في العمل ما يشتي أي شاب ناجح يزاحمه في الشغل، طيّر بي من الصحيفة! 

انتقلت للكتابة من بعد ذلك في صحف المعارضة، وبسرعة ذاع صيتي ككاتب معارض، وتخلقت لي فرصة للكتابة في صحيفة عكاظ السعودية.

وعادنا إلا بدأت أحقق انتشار جيد بين قراء المملكة ككاتب عمود ساخر، وعاد دخلي إلا بدأ يتحسن، ولكن وزير الإعلام اليمني استاء وأبرق رسالة عتب إلى وزير الإعلام السعودي كيف يستكتبوا في صحفهم كاتب معارض للنظام؟ وكرمانًا للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين الشقيقين طيروني من صحيفة عكاظ ! 

في تلك الفترة نفسها أنشأت صحيفة “حديث المدينة” نزولاً عند رغبة صديق ثري ظهر في حياتي الاعتيادية فجأة مثل حلم عارض حلق بي في السماء، ولكن وبمجرد ما أن نبعت إلى الوسط وأصدرت الصحيفة، طار الصديق الثري صاحب الضمار، وخلاني أتلبج في البحث عن ضمار لمواصلة الإصدار الأسبوعي، وعشت بسبب من ذلك المقلب الكبير سنتين في ضغوط نفسية ما كان لها أي داعي، أتعبتني وطيرت موهبتي ككاتب ساخر، وطيحت لي ضماري الحقيقي.

سنة 2011 المشؤومة كنت كأي شاب انضم للساحة نزولاً عند رغبة التغيير والتحليق بالبلد الناشئ إلى فضاء أوسع، لكن مجاذيب الإخوان ما عجبهم خطابي، وشافوني مندس وعميل للنظام، طيروني من الساحة، وطيروا بأم البلاد كلها، وطاروا هم وعوائلهم وأحلامهم في التحليق إلى قطر وإلى تركيا.

سنة 2014 شفت شعارات الحوثيين قدها مطعفرة عرض جدران الأحلام في حارتنا، وشفت كثير من الأصحاب اللي كانوا زمان يكتبوا أحلامهم المهنية عرض الجدران قدهم يكتبوا الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل، عرض نفس الجدران، لا عد “مع تحيات المهندس فلان”، ولا تحيات الدكتور علان”، وقد أغلبهم مجاهدين يطيروا مع الله. 

وجيت مره شمسح من عرض الجدار إحدى العبارات بحسن نية، وشكتب بدلها “الله الوطن الثورة الجمهورية الوحدة” نبع لي سواق متر كان زمان يشتي يقع طيار مثلي، وقال:

– مالك تمسح الصرخة؟ أو تشتي رأسك يطير؟

قلت له وأنا أضحك: 

– لا خلي رأسي بقعته، وانا أصلاً قد بطلت أحلام الطيران في اليمن.

في 25 مارس سنة 2015 قرحت الحرب، وكانت مشاهدة السماء وسماع أصوات الطائرات، وهي تضرب بالصواريخ واحدة من أكثر الأشياء المرعبة التي دكت أحلام اليمنيين، وشوهت بسمعة الطيران عندي، بينما كنت نازح أطير من قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى أخرى هربًا من شبح الموت الذي يطارد الناس في الشوارع والأزقة والبيوت، ويطير في الهواء مع كل غبار وكل دخان متصاعد من ركام الأبنية إلى السماء. 

وخلال سنوات الحرب طار كل شيء بشكل جنوني ومرعب جدًّا، وبما يكفي لمشاهدة بلادي الآمنة، وقد أصبحت مسلخًا تطير فيه الرؤوس.

وبما يكفي أيضًا لمشاهدة الأهل والجيران والأصحاب كلهم يتطايرون ما بين موتى ومشردين ونازحين في كل قرية ومدينة وبلاد، وبما يكفي لمشاهدة مدينتي التي عشت لها وعشت حياتي كلها فيها، وهي تطير إلى أيادي الرباح. 

سنة 2020 عدت إلى الحارة بعد أربع سنوات من النزوح، وكان كل شيء فيها قد طار في موسم واحد، لا عد جيران، ولا عد حياة، ولا عد دكاكين، ولا عد خدمات، وما عد إلا خراب مهول يطير النوم من عيونك وأنت تسير بين الركام وتفكر بما آلت إليه مصائر الناس في سنين الحرب اللعينة العابثة والمدمرة.

حتى عمارة والدي في الحارة الذي بناها بعرق 12 سنة من العمل لم تسلم من الطيران.

الحرب طيرت سقفها وطيقانها وبيبانها وأحجارها وسكانها، وأحرقتها بالنيران وجعلتها كعصف مأكول.

وأما بيت جدي الذي عشت وترعرعت وطرت لأول مرة فيه من غرفة إلى غرفة فقد تهدم هو الآخر، وسقط  إلى الأرض، وأصبح مجرد خرابة لذكرى عائلة بسيطة  عاشت هنا، وطار كل شيء من داخله، العائلة، الأثاث، الكهربائيات، الطيقان والأبواب عدا باب سقف الأحلام القديم لم يطر مع الغبار في موسم الحرب، عثرت عليه مرجومًا بين الحطام، وما تزال نفس العبارة القديمة مكتوبة عرضه بذات خطي القديم “مع تحيات الطيار فكري”.. وهو آخر ما تبقى في البيت من أحلام الفتى الطائر؟!

*كاتب يمني ساخر.

   
 
إعلان

تعليقات