وجدي الأهدل*
“الجميلة والوحش” حكاية خرافية أمتعت الملايين من القراء صغارًا وكبارًا. وزادت شعبيتها أكثر عندما قامت هوليوود بتحويلها إلى فيلم رسوم متحركة عام 1991 فحصد الفيلم إيرادات غير مسبوقة لهذا النوع من الأفلام، وناهزت الأرباح مبلغ النصف مليار دولار. دون شك يعود نجاح الكِتاب وتاليًا الفيلم إلى “قوة الحكاية”.
القصص الشعبية الألمانية التي جمعها الشقيقان (غريم) ونشرت في كتاب عام 1815 ما تزال طبعاتها تتوالى دون توقف، وقد ترجمت إلى 140 لغة، وهي اليوم جزء من ثقافات كثير من شعوب العالم، والأهم أن حكايات سندريلا والأقزام السبعة وذات الرداء الأحمر وغيرها من الحكايات المشوقة قد جلبت السعادة إلى قلوب عدد لا يحصى من الأطفال.
وبالنسبة للأدب العربي فإن حكايات “ألف ليلة وليلة” هي الأكثر حضورًا في العالم، وأيّ طفل يعيش في مدينة لابد أن يكون قد ألمَّ بشيء من سحرها.
في كتاب “سياسة الأدب” الذي ألفه واحد من أهم فلاسفة فرنسا المعاصرين وهو (جاك رانسيير)، نراه يخصص فصلًا مهمًا للرد على انتقادات عملاق الأدب في أمريكا اللاتينية القاص (خورخي لويس بورخيس) للأدب الفرنسي، وعنوان الفصل: “بورخيس والداء الفرنسي”.
يورد (جاك رانسيير) آراء الكاتب الأرجنتيني بأمانة، ويفندها. ولعل أهم حجج (رانسيير) هي أن (بورخيس) متناقض مع نفسه.. فهو معادٍ للنزعات الحداثية في الأدب، التي هي فرنسية بالطبع، ويميل إلى تبني آراء النقاد من ذوي النزعة الكلاسيكية المحافظة، بينما قصصه القصيرة تمثل أدب الحداثة بامتياز!
ليس مهمًا من منهما على صواب في هذا الجدل المحتدم، لكن للفائدة سنوجز هنا عيوب الأدب الفرنسي، وذلك من وجهة نظر (بورخيس):
1- التضحية بكمال الحبكة لمصلحة وفرة التفاصيل.
2- إرهاق الكاتب نفسه سعيًا وراء التعبير الذي يعطي للجملة صلابة الرخام.
يرى (بورخيس) ولعله على حق، أن الروايات الفرنسية التي تسيَّدت المشهد الأدبي في العالم منذ القرن التاسع عشر، تحتوي على قدر كبير من التفاصيل اليومية عديمة الفائدة، وأن الطابع الغالب هو الإسراف في الكلمات التي تتحول إلى مجرد ثرثرة روائية فائضة عن الحاجة.
وبحسب (بورخيس) فإن الأدب هو: “ابتكار الحكاية والتنسيق المنسجم لحبكتها وخاتمتها”.
يرد الفيلسوف الفرنسي (جاك رانسيير) ردودًا ألمعية على انتقادات (بورخيس)، ولعل جوابه المفحم قوله إن الأدب هو “الأسلوب”.
وهذا يعني أن الرواية الحديثة، التي كتبتها فرنسا أولًا ثم تبعها العالم، تعتمد على (الأسلوب الأدبي)، وأما (الحكاية) فقد أزيحت إلى الهامش.. لقد صار بإمكان الكاتب أن يكتب رواية مكونة من مئات الصفحات مستندًا على قوة أسلوبه الأدبي لا غير.
يُسمّي (بورخيس) التضحية بالحكاية لصالح الأسلوب بـ”الداء الفرنسي”.
يُشهر (بورخيس) سبابته في وجه أدباء العالم محذرًا من الداء الفرنسي قائلًا بعلو صوته: “الأدب هو قوة الحكاية”. بينما يضحك (جاك رانسيير) منه ويهمس ببرودة أعصاب: “الأدب هو قوة الأسلوب”.
وعلى ما يبدو أن هذا السجال الأدبي لم يكن مقتصرًا على بورخيس وجاك رانسيير، بل هو أبعد شمولًا منهما، فهو صدام أدبي بين قارتين، قارة أوروبا التي انحازت إلى “الأسلوب”، وقارة أمريكا اللاتينية التي انحازت إلى “الحكاية”.
وهكذا نلاحظ أن الأدب العالمي في النصف الثاني من القرن العشرين قد تطور إلى مسارين عظيمين: المسار الأول الأدب الذي يضع الفلسفة في صلب البناء الروائي، وهو المسار الأوروبي، والمسار الثاني الأمريكي اللاتيني الذي يضع الحدث في صلب البناء الروائي.
وبشكل عام كانت هناك ملاسنة بين أدباء القارتين، وكل طرف يدّعي أن الصواب إلى جانبه.
يقول الروائي الأمريكي اللاتيني مانويل بيريرا في معرض حديثه عن صديقه غابرييل غارسيا ماركيز:
“في عام 1984، تركت محلا لبيع الكتب في باريس. كنا بمفردنا وكان يسير على الشارع ويهجو بصوت عالٍ الأدب الفرنسي المعاصر منتقدًا على وجه التحديد رواية «العاشق» لمارغريت ديراس.
كان يسير على الرصيف، غاضبًا ويشير. أسوأ شيء هو أنه خاطبني بطريقة نظر إلينا المارة واعتقدونا نتشاجر. كان غابو يصرخ: يا فتى، هؤلاء الفرنسيون لا يعرفون كيف يقولون أيّ شيء، يجب أن تحدث الأشياء في الرواية.. أنا لا أفهمهم، لا يخبرونا بأي أحداث ولا يذهبون إلى صلب الموضوع، هم دائمًا يتجولون في الأدغال، بسبب التجريد، فهم فلسفيون للغاية، وهذا ممل جدًا!”.
وهناك تصريحات صحفية عديدة لماركيز جاهر فيها برأيه حول الرواية الأوروبية، الفرنسية تحديدًا، وقالها بصراحة أن ظاهرة اجتياح أدب أمريكا اللاتينية للعالم هي رد على إفلاس الرواية الفرنسية!
هذه التصريحات قوبلت بغضب شديد من قبل الأوساط الثقافية الفرنسية، وهي ترقى من وجهة نظرهم إلى أن تكون إهانة للوطن ولكل ما هو فرنسي، فالأدب في فرنسا هو مصدر فخر عظيم للفرنسيين، وربما هم الأمة الأكثر قراءة ومحبة للأدب من بين جميع أمم العالم.
شارك في السجال روائيون من الوزن الثقيل، من أمثال ميلان كونديرا الروائي التيشكي الذي عاش في المنفى الباريسي وكتب عددًا من أعماله باللغة الفرنسية، وكان من مؤيدي التفلسف في الرواية، ومن مُبغضي العنصر الحكائي.
الموعظة التي نتلقاها من حكاية “الجميلة والوحش” هي أن العبرة ليست بالشكل وإنما بالمضمون. يمكننا تشبيه الرواية العربية -التي هي اليوم في مفترق طرق- بالفتاة الجميلة (بل) التي عليها أن تقع في حب واحد من اثنين: الشاب الوسيم (جاستون) أو الوحش الدميم أمير القلعة.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات