وجدي الأهدل*
إحدى أعاجيب أدب الخيال العلمي أنه سبق الواقع! بهذا المعنى يبدو أن الأدب أتى أولًا ثم الواقع تاليًا.
ومضتْ هذه الخواطر في ذهني حين انتهيتُ من قراءة كتاب “الخيال العلمي” لديفيد سيد أستاذ الأدب الأمريكي بجامعة ليفربول، وهو كتاب صدر بالإنجليزية عام 2011، وترجمته إلى العربية نيفين حلمي عبدالرؤوف، وصدر عن مؤسسة هنداوي عام 2016.
يعترف ديفيد سيد بأنه لا يوجد تعريف دقيق أو جامع لأدب الخيال العلمي. أحد التعريفات التي أثارت اهتمامي نقله عن جوانا روس: “يتحول الخيال العلمي إلى أدب احتمالات؛ ماذا لو؟”.
وفقًا للتعريف المذكور، فإن أدب الخيال العلمي هو أدب يضع احتمالات لواقع غير موجود، لكن الغريب أن الواقع الحقيقي والملموس يبدأ بالتَّغيّر والتشبه بذاك الأدب الخيالي ومحاولة محاكاته!
هذه فكرة جنونية تمامًا، ولم تخطر ببال أيّ كاتب من كُتَّاب الخيال العلمي مهما تعاظم غروره.
يقول علماء فيزياء الكم: “إذا لم تلاحظ القمر فهو غير موجود”.
هذه الأطروحة الفيزيائية أفقدتْ ألبرت أينشتاين صوابه، ورفضها رفضًا تامًا، فالقمر في الفيزياء الكلاسيكية له وجود مادي مستقل بغض النظر عن وجود من يلاحظه.
لكن يبدو أن الأدلة العلمية المتزايدة يومًا بعد يوم تدعم أكثر فأكثر نظرية فيزياء الكم وأطروحاتها التي لا يقبلها العقل إلا بعسر.
هذا الشرح المبسط يهدف إلى الربط بين مبادئ فيزياء الكم وأدب الخيال العلمي، فما قام به أدباء الخيال العلمي خلال ثلاثمئة عام من النشاط الإبداعي في هذا المجال، أنهم تنبأوا بظواهر غير موجودة، لكنهم لاحظوها، والأمر الذي تقشعر له الأبدان أنها في طريقها لتصبح واقعًا، بل إن بعضها قد أصبح واقعًا نعيشه بالفعل!
أعرف أن هذه خواطر بعيدة كل البعد عن المنطق، لأن الوضع الطبيعي أن يأتي الواقع أولًا ثم يأتي الأدب تابعًا له، لكن في حالة الأدب العلمي العكس هو الذي يحدث، شئنا أن نصدق أو أبينا.
عودة إلى كتاب “الخيال العلمي” لديفيد سيد، فإن الثيمات الأساسية لأدب الخيال العلمي هي:
1- رحلات إلى الفضاء 2- لقاء الكائنات الفضائية 3- الخيال العلمي والتكنولوجيا 4- المدن الفاضلة (يوتوبيا)، والمدن الفاسدة (ديستوبيا) 5- الخيال العلمي والزمن.
حينما ننظر إلى ما تنبأ به أدباء الخيال العلمي بشأن الرحلات الفضائية منذ القرن التاسع عشر، فإننا نلاحظ أن هذه الرحلات الفضائية غدت أمرًا واقعًا، وهناك عدد متزايد من الدول التي ترسل مركبات فضائية إلى القمر والكواكب في مجموعتنا الشمسية كالصين والهند.
وفيما يتعلق بالتكنولوجيا، فإن أدباء الخيال العلمي سبقوا العلماء التقنيين بأشواط بعيدة، وتخيلوا أنواعًا شتى من التكنولوجيا المتقدمة، بعضها تحقق على أرض الواقع، وبعضها في طريقه للتحقق، والعلماء في سباق مع الزمن لجعل تلك (التخيلات) شبه المستحيلة واقعًا تستفيد منه البشرية.
ظهرت مئات الروايات التي تتحدث عن الروبوتات، ونحن اليوم (2024) نشاهد مدى التقدم المذهل في صناعة الروبوتات، حتى أنها تبدو بشرية إلى حد بعيد، وصار يصعب التمييز بينها وبين الإنسان الطبيعي.. ويُقال إن بعض الدول حاليًا تستخدم الروبوتات في نشرات الأخبار أو كبدلاء عن الزعماء المتوفين أو غير القادرين على ممارسة مهام الحكم.
تنبأ أدباء الخيال العلمي بالذكاء الاصطناعي، وهذا لم يعد خيالًا أدبيًا، بل واقعًا عمليًا لا سبيل إلى التراجع عنه.. وعلى يديه ستظهر كل العجائب التي تخيلها أدباء الخيال العلمي ويجعلها سهلة ميسرة تحت تصرف الجنس البشري.
تنبأ أدباء الخيال العلمي ببدلة الإخفاء، وهذه التكنولوجيا تمتلكها جيوش الدول المتقدمة، وليست متاحة للأفراد، ولكنها عاجلًا أو آجلًا ستجد طريقها للذيوع والانتشار.
تنبأ أدباء الخيال العلمي بأن الآلة ستحل محل الإنسان وتستولي على وظائفه، وصف إسحق عظيموف وهو واحد من أعظم كُتاب أدب الخيال العلمي هذه المخاوف بـ”فوبيا التكنولوجيا”، ونحن شهود على هذا التغيّر التكنولوجي المتسارع، فنرى الآلات تقوم بالعمليات الجراحية، وتُشغل المصانع وتقود الطائرات والسيارات والسفن، وقريبًا ستسيطر على سوق العمل في المتاجر والبقالات، ولن تكون هناك حاجة لليد العاملة البشرية في عشرات الملايين من الوظائف.
تنبأت روايات “الإيكوتوبيا”، وتعني اليوتوبيا البيئية، بالطاقة اللانهائية (الاندماج النووي)، وبحسب آخر الأخبار العلمية، فإن العلماء في الولايات المتحدة الأمريكية قد تمكنوا من تحقيق الاندماج النووي، والحصول على الطاقة النظيفة التي حلم بها أولئك الأدباء.
تنبأ أدباء الخيال العلمي بلقاء الكائنات الفضائية، مئات الروايات إن لم تكن آلاف الروايات تحدثت عن هذا اللقاء المنتظر.. وبحسب الإرهاصات التي بدرت من مؤسسات أمريكية حكومية فإننا قد بتنا قاب قوسين أو أدنى من هذا الحدث.
تنبأ أدباء الخيال العلمي بآلة الزمن، وبشكل سري للغاية، تتسابق الدول العظمى على اختراع هذه الآلة.. ويقال إن مشروع سيرن (مصادم الهادرونات الكبير) الذي يقع على الحدود الفرنسية السويسرية له علاقة بهذه التكنولوجيا، حتى أن الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكنج حذر العلماء في سيرن من التسبب في إحداث ثقوب سوداء..
ذهب الخيال العلمي الجامح بالأدباء إلى أفكار غريبة جدًا، مثل تخيل الأرض المجوفة التي تسكنها مخلوقات غريبة.. وهذه فكرة أدبية خيالية، لكن وياللعجب، لقد صار لهذه الفكرة أنصار في شتى بقاع الأرض، وهم يجزمون أنها حقيقة وليست خيالًا.. فهل تحدث المعجزة ويستجيب الواقع للخيال؟!
كذلك فكرة الجدار الجليدي الذي يوجد خلفه أرض جديدة صالحة للاستيطان البشري، هذه الفكرة ظهرت أولًا في أدب الخيال العلمي، لكنها اليوم تجاوزت حدود الأدب الخيالي، وهناك عشرات الملايين من البشر يؤمنون بأن وراء الجدار الجليدي في القارة القطبية الجنوبية قارات غير مكتشفة، وأن الدول العظمى تُخفي هذه المعلومات عمدًا، وتحظر تحليق الطائرات في تلك المنطقة.
كذلك فكرة الزواحف التي أتت من كوكب المريخ واستوطنت الأرض، وتشبهت بأشكال بشرية لتعيش بيننا، هي في الأصل من أفكار أدب الخيال العلمي، لكن الشيء الذي لم يتوقعه مؤلفو تلك الروايات، أن تتحول أفكارهم إلى عقائد يعتنقها الناس في مشارق الأرض ومغاربها.
بعض نظريات (المؤامرة) إذا تتبعنا منشأها، سنجد أنها نشأت أولًا في حقل أدب الخيال العلمي، ثم مع قراءة الملايين من البشر لهذه الأفكار الخيالية، بدا وكأن قانون فيزياء الكم بدأ يعمل، والواقع يستجيب وينتجه!!
بالنسبة للفيزياء النسبية فإن تلك النُبَذ الخيالية التي تخيلها أدباء الخيال العلمي ليست موجودة، ولكن إذا وجدت فهي موجودة في الأصل منذ البداية.. على سبيل المثال (الكائنات الفضائية).
بالنسبة لفيزياء الكم فإن تلك النبذ الخيالية التي تخيلها أدباء الخيال العلمي لم تكن موجودة، ولكن ملاحظتهم لها أدى إلى وجودها.. ويصلح هنا أيضًا مثال (الكائنات الفضائية).
من منهما على صواب؟ ألبرت أينشتاين أم ماكس بلانك؟
الجواب الصحيح ما زال يُحيّر أعظم العقول في العالم.
*روائي وكاتب يمني.
تعليقات