وجدي الأهدل*
نعلم جميعنا أن الأدب مهم، ولكن لماذا هو مهم؟
في أربعمائة صفحة تقريبًا يقدم مارتن بوكنر أستاذ الأدب الإنجليزي والأدب المقارن في جامعة هارفرد جوابًا مدهشًا عن السؤال المذكور آنفًا في كتابه “العالم المكتوب”، الذي ترجمته للعربية المترجمة السعودية نوف الميموني، وصدر عن دار أثر، الدمام، 2021.
صدر الكتاب بلغته الأصل (الإنجليزية) عن واحدة من كبريات دور النشر الأمريكية، هي دار راندوم هاوس، وأتصور أنه أثار غبطة عظيمة في نفوس قرائه.
وفقًا لبوكنر، فإن هناك ستة عشر نصًا تأسيسيًا ليس للأدب كتخصص ضيق كما يُظن، ولكن للحضارة البشرية كما نعرفها اليوم.
إذا افترضنا أن هذه النصوص التأسيسية اختفت كلها دفعة واحدة، فإن الحضارة ستختفي أيضًا.. طرح صعب التصديق أليس كذلك؟!
ونستنتج من الكتاب أن الإنسان البدائي يرتقي من الهمجية إلى أولى درجات الإنسانية عندما يمتلك أدبًا، حتى ولو كان هذا الأدب يتم تناقله عبر الأجيال شفويًا.
أما الخطوة الحاسمة لانتقال الإنسان من طور البداوة إلى طور الحضارة فهي لحظة تدوين هذا الأدب، وتحوله إلى نص مكتوب.. وبهذا المعنى يصبح لهذا العالم الحق في الوجود.
ما يريد بوكنر قوله إن قومًا ليس لديهم أدب مكتوب، هم قوم سيمحوهم الزمن. والدليل على ذلك أن العوالم التي نعرفها هي التي كتبت أدبياتها، حتى ولو تعرضت للانقراض، مثل المصريين القدماء والسومريين والبابليين والآشوريين، وأما الأقوام التي لم تترك خلفها آثارًا مكتوبة فإننا لن نعرفها البتة، ولذلك فإن العالم الذي نعرفه هو “العالم المكتوب” على غرار عنوان الكتاب.
ولكي تتخلَّق الأمة، فإنها تحتاج إلى نص تأسيسي يعطيها هويتها الجامعة التي تميزها عن الأمم الأخرى.
انتقى بوكنر كما أسلفنا ستة عشر نصًا تأسيسيًا رأى من وجهة نظره أن عالمنا اليوم يقوم على أكتافها وهي: الإلياذة لهوميروس، ملحمة جلجامش، الكتاب المقدس، تعاليم بوذا وكونفوشيوس وسقراط والمسيح، حكاية الأمير غنجي وهي رواية يابانية تعد تاريخيًا أقدم رواية معروفة، ألف ليلة وليلة التي تعد أقدم مجموعة قصصية في العالم، منشور مارتن لوثر الذي أسس البروتستانتية التي قادت لاحقًا وحتى يومنا هذا الحضارة الغربية، كتاب المايا “بوبول فوه”، رواية “دون كيخوته” التي أسست الرواية الحديثة، وثيقة الاستقلال الأمريكية، مؤلفات غوته، البيان الشيوعي لماركس وإنجلز، الجيل الأدبي الذي تصدره أخماتوفا وسولجنيتسين الذين كتبوا ضد الحكومة السوفيتية، ملحمة سونجاتا في غرب أفريقيا، مؤلفات ديرك والكوت رائد أدب ما بعد الاستعمار، مؤلفات رولينغ مبتكرة شخصية هاري بوتر.
وقد تيسر لمؤلف الكتاب السفر إلى أصقاع العالم الأربع ليجمع معلوماته ويجري أبحاثه، ما أتاح له أن يضيف جديدًا لم نكن نعرفه عن الأدب ومساراته الخفية في صنع التاريخ البشري.
وهذه هي تقريبًا زبدة محاضراته التي كان يلقيها على طلابه في جامعة هارفرد.
ربما من يلقي نظرة متعجلة على النصوص التأسيسية الستة عشر التي اقترحها مارتن بوكنر قد يهز رأسه باستخفاف، ولن يصدق أن الحضارة المتطورة الهائلة التعقيد تضرب بجذورها في هذه النصوص!
الفرضية التي يطرحها بوكنر صحيحة، بل إنها شديدة الخطورة إذا وعينا جديًا ما وراء السطور.. وهو تقريبًا وضع يده على سر أسرار الوجود البشري.
مارتن بوكنر ليس فقط مؤلفًا ألمعيًا توصل إلى أفكار ذكية، ولكنه أيضًا مفكر أصيل من طراز نادر.
قد يبدو سخيفًا اختياره سلسلة مغامرات هاري بوتر كنص تأسيسي، خصوصًا في ظل وجود ملايين الروائيين الجادين في شتى أنحاء العالم، لكن مارتن بوكنر له منظور مختلف، وموازين خاصة به، فهو يقيس مدى الأثر الذي يحدثه النص في الحياة.. وبهذا المقياس فإن هاري بوتر والشخصيات التي ظهرت بجواره قد شقت طريقها إلى الواقع بصورة لا تخطر على البال، وهذا هو بالضبط ما يتحدث عنه مارتن بوكنر.
نلاحظ أن قائمة مارتن بوكنر تضم خليطًا غير متجانس من النصوص، مثل البيانات السياسية، فهل البيان الشيوعي لماركس وإنجلز يعد نصًا أدبيًا؟؟ يشرح مارتن بوكنر أن البلاغة التي كتب بها البيان الشيوعي ترفعه إلى مرتبة النص الأدبي الرفيع، وأنه بسبب بلاغته الأدبية انتشر انتشار النار في الهشيم، وأدى إلى قيام الثورة البلشفية، وكل الهياكل السياسية اليسارية في العالم.
كذلك رأى مارتن بوكنر أن النصوص المقدسة هي نصوص تأسيسية بامتياز، رغم أنه لم يورد في أجندته سوى الأسفار الخمسة التي هي جزء من التوراة، وهي الأسفار التي تركت أثرًا عميقًا في الحضارة الغربية.
مارتن بوكنر ليس أكاديميًا عاديًا مما نعهد، إنه مثقف على درجة عالية من الفهم والموسوعية والتبحر في ثقافات الشعوب القديمة والحديثة والمعاصرة، وهذه الإحاطة الشاملة منحته القدرة على إبداء ملاحظات (مدهشة) لن تجدها عند سواه.
على سبيل المثال سافر مارتن بوكنر إلى إسطنبول خصيصًا للقاء الروائي التركي النوبلي أورهان باموق، ليرى مدى تدفق نصوصه إلى واقع الحياة اليومية في تركيا، وكما سبقت الإشارة فإن هذا عامل حاسم بالنسبة لبوكنر، فإذا لم يكن للنص الأدبي تأثير وأثر في الحياة اليومية للناس فإنه بلا قيمة تقريبًا من وجهة بوكنر، حتى ولو فاز بدستة جوائز نوبل للأدب، وحتى لو أجمع أرفع النقاد على فرادته والقيمة الفنية العالية لأعماله.
بالنسبة لمارتن بوكنر، الأدب لا يساوي العبقرية، ولكنه يساوي قدرته على التغلغل في الحياة اليومية للناس.
لم يصرح بوكنر علنًا أن روايات أورهان باموق مزيفة ومبهرجة، ولكنه بطريقة غير مباشرة ألمح أن أعماله لا تصلح أن تضم إلى الأعمال التأسيسية العظمى، تلك الأعمال التي تؤسس لأمة من الصفر، أو تؤدي إلى تغيير في مسار التاريخ.
أعرف أن هذه شروط تعجيزية.. ولكن بوكنر الذي وضع هذا المنهج لكتابه كان يبحث عن النصوص التي قامت بهذه المعجزات.
وجه بوكنر سؤالًا لباموق عن رأيه في ألف ليلة وليلة.. كان جواب باموق فاترًا نوعًا ما، ونفى تأثره بهذا العمل، فوجئ بوكنر بجواب باموق وخيب ظنه..
تبين لي عندما فحصت جواب باموق، أنه يعاني من علة خطيرة، هي علة متفشية في مثقفينا العرب أيضًا، وهي نزعة الاستعلاء على التراث الأدبي العربي، واللهاث وراء الحداثة الغربية.
يفهم بوكنر أن هذا مرض ثقافي عضال من يصاب به يستحيل أن ينجز نصًا تأسيسيًا خالدًا، حتى ولو أحرز شهرة مؤقتة وكوفئ بأعظم الجوائز.
في تعليق لاذع وساخر يكشف مارتن بوكنر عن رأيه الحقيقي في أدب أورهان باموق: “يؤلف على نهج الرواية الأوروبية -لاسيما الرواية الروسية- كما أوضح في وقت لاحق في سلسلة محاضرات هارفرد. الرجل معه حق؛ قصص حكواتية بغداد لا تُكْسِب الأديب عادة جائزة نوبل للأدب” ص183.
وهو يقصد بحكواتية بغداد أولئك الذين كتبوا وجمعوا قصص ألف ليلة وليلة، وأبعد من ذلك يقصد أن هذا المنهج الشرقي الأصيل في السرد ازدراه باموق ولم يدرك إمكانياته الهائلة.
يعرف بوكنر أن أيّ مؤلف غربي لو حاول استغلال المنهج الشرقي في كتاباته الأدبية فإنه لن يفلح، لأنه غريب عن البيئة التي أنتجت هذه الثمرة، وليس له جذور فيها.
والعكس صحيح أيضًا، فكل فصول كتاب “العالم المكتوب” تؤكد أن هناك تلازمًا حتميًا بين البيئة والأدب، الأرض والإنسان، وإلا فإن هذا (المكتوب) لن تكتب له الحياة.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات