Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

عام 1967 وجهت جامعة هارفرد الأمريكية دعوة للقاص الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس لإلقاء محاضرات عن الشعر، كمحاضر زائر، علمًا أنه لا يحمل سوى شهادة جامعية، ضمن برنامج نورتون ليكتشرز، فألقى ست محاضرات شفوية، لم يدونها على الورق، ولم يهتم بها مطلقًا، فقد رأى أنها محاضرات مبسطة موجهة لطلاب الجامعة، وليست مخصصة للنشر ككتاب يتم تداوله.

بعد وفاته بعشر سنوات تقريبًا، وبعد مرور ثلاثة عقود على إلقاء تلك المحاضرات، أيّ في تسعينيات القرن الماضي، جرت العودة إلى التسجيلات، وتفريغ الأشرطة، ومن ثم بزغ من العدم كتاب جديد لا يقدر بثمن لهذا الرجل الذي يبدو في محاضراته تلك شديد التواضع ومقللًا من قدر نفسه.

بورخيس ألقى المحاضرات الست باللغة الإنجليزية التي يجيدها بطلاقة، ولذلك نشرت أولًا باللغة الإنجليزية، وبعدها ترجمت إلى اللغة الإسبانية، اللغة الأصلية لبورخيس، وهنا تصدى المترجم الكبير صالح علماني لترجمة الكتاب إلى اللغة العربية. صدر الكتاب بطبعتين عن دار المدى ببغداد، الأولى عام 2007 والثانية عام 2014.

عنوان الكتاب “صَنْعَة الشعر”، ورغم أن الكتاب انتقل إلينا عبر ثلاث مراحل؛ من الشفوية إلى التدوين، ثم من الإنجليزية إلى الإسبانية، ثم من الإسبانية إلى العربية، فإن الأفكار التي يطرحها بورخيس عن الأدب بالغة الأهمية، وبالنسبة لي فإنها من أهم ما قرأته عن الأدب على الإطلاق.

ربما هناك شذرات من الإشراقات الفكرية قد فُقدت خلال الطريق الطويل الذي سلكته كلمات بورخيس حتى تصل إلينا نحن القراء العرب، وحتمًا أن الشواهد الشعرية الزاخرة بالبيان التي استشهد بها، وهي باللغات الإنجليزية والإسبانية والألمانية ولغات أوروبية قديمة، لن تصلنا سوى أصداء باهتة شبه ميتة منها، ومع ذلك هناك نقاط جوهرية في محاضرات بورخيس ذات أهمية حاسمة، يمكن لأيّ أديب مهما كانت لغته أو حضارته التقاطع معها، والاسترشاد بها.

في العالم أعداد هائلة من حملة شهادات الدكتوراه في الأدب بمختلف فروعه، وفي النقد بمختلف تخصصاته، وفي الفن بمختلف مذاهبه، وأروقة الجامعات مكتظة بهم، ولكن من الواضح أنه من العسير عليهم استنتاج الخلاصات التي توصل إليها بورخيس وشرحها ببساطة مذهلة.

لعل بورخيس تعمد عدم تدوين محاضراته وجمعها ونشرها لأنه كان رجلًا مهذبًا، لم يكن يحبذ التشكيك في الرطانة الأكاديمية الرائجة منذ بدايات القرن العشرين وما تزال مسيطرة حتى يومنا هذا.. فهو كان في وادٍ وملايين الأكاديميين في وادٍ آخر.

هو نفسه يقر بأنه توصل إلى خلاصاته الأدبية في عمر السبعين عامًا، هو الذي بدأ قراءة الشعر والأدب في سن العاشرة، وأمضى ستين عامًا مكرسة لقراءة الأدب..

عناوين المحاضرات الست وفقًا لتسلسل تواريخ إلقائها:

لغز الشعر، الاستعارة، فن حكاية القصص، موسيقى الكلمات والترجمة، الفكر والشعر، معتقد الشاعر.

وكل واحدة من هذه المحاضرات جديرة بمقالة مستقلة لأهمية ما فيها من ملاحظات أدبية، ولكنني سأركز على محاضرته الثالثة “فن حكاية القصص”، التي أورد فيها ملاحظات قيّمة وقفت عندها طويلًا.

يقول بورخيس في محاضرته الثالثة:

“إذا ما فكرنا في الرواية والملحمة، فإننا نجد أنفسنا منقادين إلى إغواء التفكير في أن الفرق الأساسي بينهما يقوم على الفرق بين الشعر والنثر، بين غناء الشيء وعرضه. لكنني أفكر في أن هناك فرقًا أكبر. فالفرق يستند في الواقع إلى أن المهم في الملحمة هو البطل: إنسان هو نمط لكل البشر. بينما جوهر معظم الروايات، كما يشير مينكين، يستند إلى إخفاق إنسان، إلى انحطاط الشخصية وترديها”ص72-73.

في هذه الكلمات القليلة يشرح بورخيس سر نفوره من كتابة الرواية، وازدرائه الفن الروائي بصورة عامة.

لا أرى أن كلماته بحاجة إلى شرح من طرفي، فهي واضحة وضوح الشمس.. والحكم الذي أصدره ينطبق على الروايات التي نكتبها اليوم، فأبطال رواياتنا سلبيون، مهزومون، ولا أحد من القراء يمكنه اتخاذ أيّ منهم قدوة له.

ملاحظة بورخيس أعلاه تنقض كل النظريات النقدية والفنية الشائعة في آلاف الكتب التي صدرت في أوروبا وأمريكا وبالتبعية في العالم العربي.. وهي ملاحظة شديدة الخطورة تنسف ملايين الأوراق التي كتبت باسم الفن الروائي.

منذ سنوات قريبة شعرت بقلق غامض بشأن كتاباتي الروائية ومشروعي الروائي، وبدأت نوعًا من المراجعة الذاتية، وكان السؤال الذي يطرح نفسه عليّ هو: ما الفائدة التي يجنيها القارئ من روايتي؟ إذا لم تكن هناك ثمرة حقيقية، فلعل الأفضل التوقف عن إزعاج القراء وتوفير وقتهم.

أعلم أن هناك طائفة من الروائيين لا يفكرون على هذا النحو، فما يهمهم هو رفع رصيدهم الشخصي من الإنتاج الروائي، وربما المنافسة على الفوز بجائزة ما تحسن من أوضاعهم المادية، وهذا من حقهم تمامًا، ولكن بالنسبة لي لم أعد أتمتع بهذا المزاج الحسن لأتابع كتابة الرواية تلو الرواية.

لحسن الحظ أن كتاب بورخيس “صنعة الشعر” أكد لي صحة شكوكي في المسار الذي اتخذته الرواية الحديثة، منذ ميغيل سرفانتيس وحتى لحظة كتابة هذا المقال.

الكتاب يحفل بالآراء الشجاعة التي لا نجسر حتى على مجرد التفكير فيها، ومن ذا يمكنه أن يتصور أن الفن الروائي الذي نزاوله ليس على ما يرام، وأنه فن مُحْبِط للمعنويات نقل هذا الضَعْف إلى ملايين القراء، طبعًا باستثناء عدد محدود من الروايات.

لقد أشرت في مقال سابق إلى أنه في العام الماضي تم اختيار كلمة “تعفن الدماغ” ككلمة عام 2024، والمقصود أن وسائل التواصل الاجتماعي تسبب “تعفن الدماغ”، إلا أن الكلمة استخدمت في البداية، قبل قرنين، للإشارة إلى “تعفن الدماغ” بسبب قراءة الروايات المتدنية المستوى.

لكن عندما نراجع أعظم ما أنتجته البشرية من روايات، سنجد أن وصف بورخيس ينطبق عليها بدقة مذهلة، فمثلًا رواية “دون كيخوتي” لسرفانتيس تتحدث عن الانحطاط العقلي لبطل الرواية الذي راح يقاتل طواحين الهواء، وجميع شخصيات دوستويفسكي تعاني من عطب نفسي أو خلل عقلي، وبطل رواية مارسيل بروست “البحث عن الزمن الضائع” هو الآخر شخص معطوب ومريض نفسيًا وهلم جرا.

لم يتجرأ بورخيس على الإشارة إلى رواية “دون كيخوتي” وكذلك القمم الروائية العالمية، لأنه يعلم أنها من المقدسات، والنقاد سينهشون لحمه حيًا، فكان الحل أن يتحدث عن عيوب الفن الروائي بصورة إجمالية.

من جانبي أتساءل لماذا أهملنا نحن العرب أدبنا القصصي الشعبي مثل سيرة عنترة بن شداد وسيرة ملك اليمن سيف بن ذي يزن، وسيرة الزير سالم، وسيرة أبو زيد الهلالي، وأمثالها من الأدب الملحمي؟ هل هذا الإهمال عفوي أم مقصود؟؟

هذه القصص الشعبية تقدم نماذج إيجابية، تتحلى بالبطولة، ويمكن أن يستمد منها القارئ قبسًا من القدوة في الشجاعة والاعتزاز بالنفس.

يقول الروائي الأمريكي ريتشارد بورغين الذي التقى ببورخيس خلال فترة إقامته في أمريكا وأجرى معه حوارات جمعها لاحقًا في كتاب:

“بحلول موعد محاضرته الأخيرة في جامعة هارفارد، كان بورخيس قد أصبح البطل الأدبي في كامبريدج. كما أنه أينما حل في البلاد، وألقى محاضراته وقرأ قصائده، استقبله الناس بالقدر نفسه من الحماس”(كتاب متعة الأدب، خورخي لويس بورخيس، ترجمة جوهر عبدالمولى، منشورات حياة، 2023، ص20).

وأعتقد أن هذا الشعور الذي رصده ريتشارد بورغين أثناء الإلقاء الشفوي لتلك المحاضرات قد وصل إلينا أيضًا، وإن كان مفتقرًا للحضور الشخصي لبورخيس، ولكن أزعم أن القارئ اللبيب سوف ينال تعويضًا كافيًا.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات