Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

يقولون إن الكاتب أدنى في بذل الجهد لأجل معاشه من الإنسان العامل، فهو امرؤ خامل! وقد يُعَيِّرونه أنه عاجز عن نفع نفسه فما بالك بنفع غيره، وأنه كَلٌّ على من حوله ويتطلب من يخدمه حتى لإعداد فنجان قهوته، فمن مثله في الراحة والكسل! وكل هذه الأقاويل الصحيحة ظاهريًا مجرد أباطيل، لأننا حين نُدققُ النظر في حياة الكاتب والفنان سنجدها لا تختلف في شيء عن حياة الإنسان العامل، بل إنها مهنة أشد تطلُّبًا، ويكاد يكون الكاتب وكل من يشتغل بفن من الفنون العامل الوحيد الذي يأخذ إجازة لكي يعمل!

الكاتب الشغوف بعمله لا يعرف مطلقًا طعمًا للراحة، فإن مر عليه يوم دون كتابة فلن ينجو من تأنيب الضمير. فإذا دامت هذه الحالة من الإجبال -أي العطالة عن الإبداع- عدة أيام فقد يُصاب الكاتب بالحزن الشديد المفضي إلى الاكتئاب، فيرى حياته قطعة من الجحيم. وأما إذا كرَّت الشهور دون كتابة سطر واحد فإن العاشق الحقيقي للكتابة سوف يعجز عن تحمل هذا العذاب المبرح ويلجأ للانتحار.

هل سمعتم يومًا أن عاملًا يتقاضى راتبه كاملًا ينتحر لأنه لا يعمل بما فيه الكفاية؟؟ يحدث هذا فقط لنوع واحد من العمال، وهم الكُتاب ومن هم على شاكلتهم، إذ يمكن للكاتب أن يُعاقب نفسه بالموت إذا توقف عن العمل! حتى وإن كان غنيًا وغير محتاج للكدّ اليومي. ولعل أبرز مثال نسوقه هنا هو الروائي الأمريكي (إرنست همنغواي) الذي انتحر بإطلاق رصاصة على رأسه ليرتاح من آلام العجز عن الإنتاج.

إن عقد العمل المبرم بين الكاتب والكتابة هو من أشد العقود إجحافًا، وبنوده هي الأكثر إلزامًا، فهو عقد يبيع فيه المرء نفسه متخليًا عن حريته، فيصير عبدًا لمولاته الكتابة بكل ما تعنيه الكلمة.

إن الكاتب يُلبي نداء الكتابة مهما كانت ظروفه، فهي قد تستدعيه وهو يمرح مع بنيه، وقد تنتزعه وهو على سفرة طعامه، وقد توقظه من نومه لتملي عليه ما تريد.

الكاتب الجاد خادم مخلص لسيدته الكتابة، فهو متاح للخدمة على مدار الأربع والعشرين ساعة.

إن الكتابة حمل ثقيل على صاحبها، ولو شعر الناس بهذا الوزن الذي يكاد يُزهقُ روحه لأشفقوا عليه ورثوا لحاله. لكن المؤسف أن السواد الأعظم من الناس لا يعلمون شيئًا عن هذه العلاقة المعقدة بين الكاتب والكتابة، والثمن الباهظ الذي يُضطر إلى دفعه ألا وهو الانشغال الدائم بها، كل يوم وفي كل لحظة من اليوم.

ما يراه الناس هو نجاح الكاتب وهالة الشهرة التي تحيط به، ولا يخطر ببالهم أبدًا مقدار معاناته في خلواته.

وقد صادفتُ في مرات عديدة أشخاصًا من مهن أخرى يقع في أيديهم أحد كتبي، فيعنُ للواحد منهم أن يقول: “لو أن عندي وقت فراغ لكتبت مثل هذا أو أحسن منه”! وليس بمستطاع الكاتب أن يُفحم هؤلاء القوم، إذ كيف تُخبرهم أنك حين تكتب فإنك تعمل، وأن الفراغ الذي يحسدونك عليه ليس له وجود أصلًا.. ذاك لأن الكاتب ليس لديه وقت فراغ في أيّ وقت من الأوقات، فهو منشغل بالكتابة ذهنيًا أو عمليًا مع كل نفسٍ يتنفّسه.

وأزيدكم من الشعر بيتًا: الكاتب يعمل حتى وهو نائم! وإذا كان السواد الأعظم من البشر ينامون ولا يبالون بأحلامهم، فإن الكاتب يختلف عنهم، إذ هو صياد لا يكف عن رمي شبكته في يقظته أو نومه، ولعل أثمن ما يصيده هي الرؤيا التي يراها في منامه، فيسارع إلى تدوينها فور استيقاظه قبل أن تذوب ويمحوها النسيان، ويدّخرها ضمن المواد الخام الأصلية التي يمكنه توظيفها لاحقًا في أعماله السردية، وبهذه الطريقة يضمن 100% أن خياله الأدبي أصيل أصالة قطعية، لأنه آتٍ من أعماق نفسه وعقله الباطن.

هناك من المبدعين من يعترفون أنهم يغترفون من أحلامهم، مثل القاص الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، وهناك من لا يبوح بسره، ولا يكشف تقنيته، ولكنه يوظفها بصورة شديدة الوضوح، مثل الروائي التشيكي فرانز كافكا الذي اقتبس من كوابيسه أعماله الروائية الشهيرة كالمسخ والمحاكمة.. وهذا النوع من الخيال الغرائبي لا يخطر قط بالعقل البشري الواعي، ولكنه من الممكن بسهولة أن يظهر على هيئة أحلام وكوابيس، وما على المبدع المهموم بالكتابة إلا أن يلاحظها ويتذكرها ويدوِّنها، ويكنزها في وجدانه كهدية لا تقدر بثمن.

وهناك تيارات فنية تنظر إلى الأحلام بوصفها المصدر الأول للإبداع، والنبع الذي تتجه إليه أنظار المبدعين، مثل السوريالية والواقعية السحرية.

والكلام يطول حول العلاقة القوية بين المبدعين والرؤى المنامية، والشاهد أن الكاتب لا يهدأ ولا يفتر عن العمل على مشروعه الإبداعي، سواءً كان صاحيًا أو نائمًا.

ونقطة أخيرة في المقارنة بين العامل العادي والكاتب: الموظف والعامل يحق له التقاعد عند سن معينة، ليعيش حياته بالطول والعرض مرتاحًا هانئ البال، فيقضي شيخوخته في هدوء ودعة، وأما الكاتب فإنه محكوم عليه بالشغل مدى الحياة، فلا يأنس إلى التقاعد، ولا هو يصبو إليه، بل لربما استشعر زخمًا أكثر نضجًا لكتاباته مع تراكم تجاربه في الحياة رغم انحطاط قواه الجسدية.. جميع الكُتاب الذين عُمِّروا إلى الثمانين والتسعين ظلوا منتجين، فهذا ديدنهم، ومن شبَّ على شيء شاب عليه، ومن أبرز الأمثلة الفيلسوف الفرنسي (إدغار موران) الذي ما يزال يكتب وينشر وقد جاوز عمره المئة عام.

ثمة حالات نادرة أعلن فيها كاتب عن تقاعده كالروائي الأمريكي المرشح لجائزة نوبل (فيليب روث)، ووقتها أثار إعلانه ضجة في وسائل الإعلام، لأنه ليس معهودًا لا في الزمان القديم ولا في الزمان الحديث أن تخطر ببال كاتب فكرة أنه موظف في بلاط الأدب، وأنه قد آن الأوان ليلُمَّ أغراضه ومتعلقاته الشخصية ويودع مكتبه، ويمضي متخففًا من أعباء مهنته التي أفنى حياته من أجلها.     

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات