Accessibility links

ما زالت الروائح العطرية لغة دارجة في اليمن رغمًا عن الحرب.. طفل في تعز يروي سيرة “بائعي المشاقر”


إعلان
إعلان

صنعاء – “اليمني الأميركي” – أحمد الكمالي:

لم يرث مهند فؤاد (15 عامًا) من أبيه، الذي غادرهم مؤخرًا، سوى مهنة بيع المشاقر (النباتات العطرية)، والتي عُرف والده كأحد بائعيها في شوارع مدينة تعز (جنوب غربي اليمن)، التي تُعد هذه المهنة جزءًا أصيل من ثقافة هذه المحافظة.

اضطرت الظروف المعيشية أسرة مهند، المكونة من 11 شخصًا، أن يخصص هذا الطفل يومين من الأسبوع لبيع المشاقر، كامتداد لأبيه، وحرصًا على المحافظة على مصدر دخل أسرته، لعله يسهم بعائدها في سد ولو فجوة في جدران الحاجة المعيشية للعائلة؛ وهي الفجوة التي اتسعت كثيرًا بفعل تداعيات الحرب، التي يشهدها البلد منذ عشر سنوات.

بعد سبعة أيام من وفاة والده اضطر مهند للنزول إلى الشارع، وممارسة عمل أبيه، وهو ما أدهش زبائن والده، الذين حفزوه ودعموه لمواصلة العمل مكان أبيه، على أن يستمر في مدرسته؛ وهو ما التزمه مهند؛ فصار يعمل خلال يومي الإجازة الأسبوعية في شوارع تعز بائعًا للمشاقر، التي تزدان بها غالبًا هيئات النساء هناك.

 في الـ11 من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، رحل (بائع المشاقر) فؤاد غالب عن عمر يناهز الخمسين عامًا، وكأي مواطن صالح قضى معظم عمره مكافحًا بكل تفان في سبيل ضمان الحياة الكريمة لأسرته، بما فيهم تسعة أبناء، أكبرهم في عمر الـ24 عامًا، وأصغرهم لا يتجاوز الـ7 سنوات.

ألقى رحيل فؤاد على أسرته حملًا ثقيلًا ومركبًا من مشاعر الفقدان وهواجس الخوف من الانسحاق تحت قسوة الحاجة والفقر المدقع، التي تعيشها الكثير من الأسر اليمنية نتيجة ظروف الحرب، لدرجة لا تجد تلك الأسر خيارات قادرة على دفع شبح الجوع عن أطفالها، سوى أن يكبر هؤلاء الأطفال سريعًا تحت ضغط الحياة الثقيل، كما فعل مهند في سبعة أيام!

يتحدث الطفل مهند لـ”اليمني الأميركي”: “عندما وصلت إلى المدينة حاملًا المشاقر التي جهزها والدي قبيل رحلته الأخيرة، وجدت تشجيعًا كبيرًا لم أتوقعه، من زبائن والدي، الذين عبروا عن افتقادهم للمشاقر والورود التي كان يجلبها لهم كل يوم، وذلك شجعني على الاستمرار في عمل الوالد للحفاظ على مصدر دخل الأسرة”.

عُرف والد الطفل مهند في أوساط أهالي مدينة تعز خلال عمله بائعًا متنقلًا للمشاقر في شوارع المدينة (تتكون المشاقر عادة من حُزم شجر عطرية كـالريحان، الشذاب، والأوزاب، والكاذي والنرجس، وغيرها)، ويشاع استخدامها لتزيين الوجوه في مدينة تعز، (بالذات النساء)، واتسم الرجل بسجايا حميدة وابتسامة دائمة يحيي بها عيون المارة الذين يصادفونه، وهم كثر، وقد بدا ذلك جليًا في نعيهم له عبر منصات التواصل الاجتماعي.

السجايا الحميدة التي عُرف بها بائع المشاقر فؤاد غالب بين عملائه ومحبيه في مدينة تعز، لمسها أيضًا كلُّ من تعامل مع الرجل طوال حياته، ابتداءً من والديه الطاعنين في السن اللذين كان ينتظران عودته كل يوم إلى القرية بحفاوة، ويقوم هو برعايتهم ويكرمهم بما يستطيع، حسب شقيقه علي، متحدثًا لـ”اليمني الأميركي”، مشيرًا إلى أن “فؤاد بدأ مشوار الكفاح في الحياة منذ نعومة أظفاره، فعمل بمهن متعددة، بينها نجار وغيرها من مهن أعمال البناء، وخلال سنوات الحرب، كانت تتناقص فرص العمل، وبعد أن ضاق عليه الحال، وتراكمت ديونه بشكل أكبر، قرر مطلع عام 2019، أن يخوض تجربة جلب المشاقر من مسقط رأسه وبيعها في المدينة”.

ويضيف: “كان فؤاد ينهض يوميًا قبل شروق الشمس، ويقطع مسافة حوالي 7 كيلو مترات مشيًا على الأقدام، من قريتنا إلى منطقة الضباب؛ كونها أقرب نقطة لقريتنا تمر فيها السيارات إلى المدينة، ومع حلول المساء يعود إلى منزله لتشكيل وترتيب ورود المشاقر التي سيبيعها في اليوم التالي، وغالبًا كان ولده مهند هو من يقوم بشرائها وتجميعها من الأهالي الذين يزرعونها في قريتنا والقرى المجاورة”.

مساعدة الطفل مهند لوالده في جمع المشاقر كل يوم ومرافقته إياه في بعض رحلاته اليومية إلى المدينة، كانت عاملاً مساعدًا له على اتخاذ مبادرة النزول إلى سوق العمل، كما يقول لـ”اليمني الأميركي”، موضحًا أن عمله حاليًا يسير بشكل طبيعي، وبالإضافة إلى الصعوبات التي يجدها في نقل المشاقر من مسقط رأسه إلى المدينة، يقف أمامه تحديًا كبيرًا متمثلًا في التوفيق بين العمل والدراسة، لذا اقتصر ذهابه مؤخرًا إلى المدينة على يومي الإجازة المدرسية فقط.

العمل والتعليم

 تعي أسرة مهند أهمية مواصلة ابنها للتعليم؛ فقد كان والده دائم النصح له ولجميع أولاده على مواصلة التعليم النظامي، كما كان يأسف لعدم قدرته على دعم أحد اشقائه لمواصلة مشوار التعليم، وكذلك كان يحز في نفسه أنه ترك المدرسة هو الآخر، بحسب تعبير زوجة بائع المشاقر (أم مهند)، في حديثها لـ “اليمني الأميركي”، وكلها أمل أن “يقف المجتمع، بالذات زبائن وأصدقاء زوجها المرحوم فؤاد، مع أولادها، بما يضمن حفاظ الأسرة على مصدر دخلهم الاقتصادي، وفي ذات الوقت أن يستمر مهند في المدرسة”.

لا يبدو حاليًا أن لدى الأسرة خططًا واضحة لتحقيق ذلك، ففيما لم يكن لدى الأب ما يورثه لهم بما يكفيهم بعد وفاته، عدا رحلته الملهمة من الكفاح بحثًا عن الحزمة اللائقة من المشاقر ووضعها في جبين المدينة التي تحتضن أبرز بائعي المشاقر في اليمن ، في سيرة يستكمل روايتها الطفل مهند.

تطمح أسرة مهند بكل إيمان وأمل أن يتمكن مهند من مواصلة التعليم، في الوقت الذي تحافظ فيه على مصدر دخلها، وخصوصية اسم فؤاد غالب كأشهر بائع مشاقر في مدينة تعز مؤخرًا، والتي نالها بعد خمسة أعوام من السفر دون توقف والعمل المجهد دون كلل، خاضها بتفاني محارب عنيد وقلب عاشق لمدينة تعز.

   
 
إعلان

تعليقات