جيمس زغبي*
من الصعب استيعاب الألم المبرح الذي يعاني منه الفلسطينيون في غزة. يشمل هذا الدمار عشرات الآلاف الذين قُتلوا في القصف الجوي، وأكثر من مئة ألف مصاب بجروح خطيرة، وهدم الغالبية العظمى من المنازل، وبسبب الحصار الإسرائيلي، يعاني أكثر من مليون ونصف شخص من حالة المجاعة.. بالإضافة إلى ذلك، تم تدمير المستشفيات والمدارس، وتوقفت إلى حدٍّ كبير الخدمات الأساسية التي تدعم حالات الولادة والمرض والموت والحزن ومعالجة الجراح النفسية الناتجة عن الحرب.
معظم القتلى والجرحى من المدنيين، وأغلبهم من النساء والأطفال. فقَدَ أكثر من أربعة آلاف شخص أطرافهم. والكثير من الأطفال الجرحى هم الناجون الوحيدون من عائلاتهم.
لقد كتبت من قبل عن فظاظة مناقشات «اليوم التالي»، التي تركز فقط على الحكم أو إعادة الإعمار الفعلي، متجاهلة البُعد الإنساني للنزاع وتبعاته طويلة الأمد.
لا شك أن الحكم وإعادة الإعمار أمران مهمان، وكذلك الوثائق والخطط التي يتم إعدادها لمعالجتهما. لكن من الضروري أيضًا التركيز على الجروح الجسدية والنفسية التي خلّفتها هذه الحرب ومعالجتها.
فكر في الجروح النفسية التي يعاني منها أطفال غزة.. إن الخسائر الكبيرة تُحدث صدمة نفسية. فقدان أحد الوالدين، أو أحد الأشقاء، أو الأصدقاء، أو حتى الانتقال إلى حيٍّ جديد يمكن أن يكون مقلقًا ويؤثر على سلوكهم أو استقرارهم النفسي. لكن يمكن التخفيف من وطأة هذه الصدمة بعوامل أخرى. على سبيل المثال، يمكن للأسرة الداعمة أن تخفف من انزعاج الطفل من فقدان أصدقائه وبيئته المألوفة عند انتقال عائلته إلى مدينة جديدة.
لكن ماذا لو، كما هو الحال في غزة، فقدت عائلتك العديد من أحبائها، واضطرت إلى النزوح عدة مرات، وتعيش الآن في خيمة بلا طعام أو ماء؟ ثم تخيل طفلاً، يعاني بالفعل من الصدمة، ينضمُّ إلى مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يقطعون رحلة طويلة شمالاً عائدين إلى ديارهم خلال وقف إطلاق النار الأخير، ليجد عند وصوله أن منزله وكل حيّه قد أصبح أنقاضًا لا يمكن التعرف عليها. ثم يتبع هذه التجربة إجباره على مواجهة الجوع والإهانة عند رؤية والديه يتوسلان من أجل الحصول على الطعام.
عندما نكبر، ينظِّم عقلنا تجاربنا ليجعل لها معنى. نبني خريطة ذهنية لعلاقاتنا ولمكاننا في العالم. بالنسبة لطفل يبلغ من العمر 12 عامًا يعود إلى مدينة غزة، لا يجد منزلاً، والطريق إلى المدرسة، والدكان المجاور، ومنزل صديق، أو المسجد أو المدرسة، قد مُحِيت جميعها.
إن تراكم الخسائر المتعددة والتشريد القسري الشديد يولد صدمة عميقة. وفي ظل هذه الظروف، من المستحيل حساب مدى تأثير ذلك على صحة الطفل النفسية أو تطوره المستقبلي.. كيف سيفسر كل هذه الخسائر؟
نظرًا لخطورة هذا الوضع، يصبح من الضروري ليس فقط إنهاء الصراع ووضع خطط لإعادة الإعمار والحكم، ولكن أيضًا معالجة الاحتياجات النفسية والإنمائية.
تركز الصحافة الأميركية على ضرورة معالجة صدمة الأطفال الإسرائيليين الذين احتُجزوا كرهائن في غزة. وهذا أمر ضروري بلا شك، ولكن مدى تجاهلنا للصدمة التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة أمر مثير للقلق.
إنها حالة تنطوي على رؤية عنصرية، لأننا لا ننظر إلى الفلسطينيين كبشر كاملين، فإننا نعجز عن فهم كيف أن تدمير حياتهم، وحرمانهم من حاضر طبيعي ومستقبل واعد يمكن أن يؤدي إلى تشوهات في إحساسهم بالذات.
من دون التعاطف ونهج شامل لإعادة بناء غزة واستعادة شعور شعبها بأنه يعيش حياة متكاملة، فإنني أخشى مما قد يحمله المستقبل.
لم تُبدِ لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة أيّ اهتمام بالتعامل مع إنسانية الفلسطينيين، بل تواصلان الترويج لخطط تقلص هذا الشعب المنكوب إلى مجرد بيادق تحركها إسرائيل لتحقيق أهدافها.
يجب أن يأتي الحل من موقفٍ حازمٍ وموحدٍ من الدول العربية والدول الأوروبية الرئيسية، لفرض عقوبات على إسرائيل وإجبارها على الانسحاب من غزة وإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية. عندها فقط، وتحت إشراف دولي، يمكن أن تبدأ عملية إعادة الإعمار وبناء غزة من جديد وتضميد جراح ضحايا الحرب من الفلسطينيين.
إذا لم نسلك هذا المسار، فسيكون هناك ثمن باهظ؛ إذ إن البذور المرّة التي تُزرع اليوم ستؤتي ثمارها في الأجيال القادمة.
* رئيس المعهد العربي الأميركي
تعليقات