Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

أين تكمن أهمية هنري تشارلز بوكوفسكي؟ ولماذا ما تزال أعماله تحقق شعبية كبيرة في جميع أنحاء العالم؟ سنحاول هنا الإجابة على هذا السؤال.

بوكوفسكي (1920- 1994) هو روائي أمريكي قضى خمسين عامًا من عمره راكبًا حافلة الإفلاس والعوز، وتنقل في عدة وظائف متدنية الأجور، لكن عندما نشر روايته “مكتب البريد” عام 1971 تغيّرت أحواله كليًا، وتمكن من ركل الفقر كما يقال.

يُفاجأ القارئ حين يطالع رواية “مكتب البريد” بضحالتها والعيوب الفنية العديدة التي تعتورها، ومع ذلك، ثمة سرًا جعل هذه الرواية بالذات، تحقق ذيوعًا وانتشارًا بين القراء الأمريكان في البداية، ثم بين القراء حول العالم بعد ترجمتها إلى 15 لغة، فما هو هذا السر؟!

السر هو صراحتها الصادمة، فبوكوفسكي لا يمتلك التكنيك الروائي العالي كما نجده في أعمال وليم فوكنر، ولا هندسة المجازات والاستعارات كما عند إرنست همنغواي، فهو لا ينتمي للصف الأول من العباقرة، إلا أنه مع تواضع موهبته، تمكن من حفر اسمه بجوار عمالقة الأدب، وذلك يحسب له دون شك.

رواية “مكتب البريد” تشبه من أوجه عديدة رواية “الخبز الحافي” للمغربي محمد شكري، فهي سيرة ذاتية لمؤلفها، وكما أقرَّ بوكوفسكي بنفسه، فالسرد في الرواية 93% منه حقيقي، و7% الباقي هو “تحسينات” كما يقول!

“مكتب البريد” رواية ممتعة للقارئ، وشخصيًا استمتعتُ بقراءتها، ويمكن إنهاؤها في جلسة واحدة، فهي رواية سلسة تمسك بالقارئ وتسحره أجواؤها ولا يرغب في تركها قبل إكمالها.

هي بالطبع تستحق شهرتها، وكاتبها يستحق عن جدارة الشهرة التي هبطت عليه بعد نشرها.

وإذا غضضنا النظر عن الشروط الفنية والجمالية الخاصة بالشكل، وركزنا أكثر على المضمون، سنجد أن بوكوفسكي يحقق أهدافًا دقيقة التصويب، بل هو أعظم رامٍ في عصره، وربما هو نفسه لم يتوقع أن تنال رميته كل ذلك التوفيق والتهليل!

تتحدث الرواية عن تشيناسكي الموظف في بريد الولايات المتحدة الأمريكية، وعن معاناته من هذا النظام الرأسمالي الذي يقدم المال باليد اليمين، ثم يستعيده بيده الشمال.

وهي معاناة كل الموظفين في الوظائف الدنيا، سواءً كانوا موظفين في القطاع العام أو الخاص، فالرواتب بالكاد تغطي النفقات الأساسية ولا يتبقى شيء للادخار.. إنه نظام يسحق ذوي الدخل المنخفض بلا رحمة. يتحدث تشيناسكي عن عمله في مكتب البريد:

“عدت إلى مكاني وجلست. 11 عاما! لم يكن في جيبي سنتا واحدا أكثر مما كان معي عندما دخلت إلى هنا أول مرة.” ص 219.

مقاطع عديدة في الرواية تصف كيف تأكل هذه الوظائف المتدنية الأجور الأعمار وتلتهم بشراهة حيوات ملايين البشر:

“رأيت هذا العمل يبتلع أشخاصًا. بدوا وكأنهم تلاشوا. كان هناك جيمي بوتس من محطة دورسي. عندما بدأت العمل هناك، كان جيمي رجلًا حسن النية يرتدي قميصًا أبيض. انتهى الآن.. أنزل مقعده إلى أقرب نقطة إلى الأرضية وأمسك نفسه حتى لا يقع على قدميه. كان متعبًا جدًا على الحلاقة، وقد ارتدى البنطلون ذاته لمدة 3 سنوات. غيّر القميص مرتين في الأسبوع وسار ببطء شديد. قتلوه. كان عمره 55 عامًا. تبقت له 7 سنوات على التقاعد.

“لن أبلغ التقاعد” قال لي.

إما أنهم تلاشوا أو أنهم تكرشوا، وتضخموا، خصوصًا في منطقة الإليتين والبطن. كان ذلك بسبب المقعد والقيام بنفس الحركات ونفس الكلام. وها أنا، مصاب بنوبات دوار وآلام في الذراعين، والرقبة والصدر، وفي كل مكان. نمتُ طوال اليوم حتى أستريح من هذا العمل. في عطلة نهاية الأسبوع شربتُ كي أنسى. عندما بدأتُ العمل كان وزني 84. الآن صار وزني 101 كيلو غراما. كل ما وجب تحريكه هو الذراع اليمنى فقط” ص 220.

لم تكن موهبة بوكوفسكي عظيمة، لكنه عوض هذا النقص في الموهبة، باقتناص موضوع يهم الإنسانية جمعاء، في أيّ مكان من العالم، فهو يتحدث عن الموظف المسحوق الذي بالكاد يجد الكفاف ليبقى على قيد الحياة.

وفي الرواية أظهر ببراعة يغبط عليها كيف تأكل الوظيفة عمر الإنسان، فلا هو عاش حياته، ولا هو ادخر منها أكثر من حاجته بحيث يستطيع الفكاك منها وبناء حياته مستقلًا عنها.. صحيح أن العبودية قد أُلغيتْ، ولكن عبودية الموظفين تشبه من وجوه عديدة حياة العبيد في الأزمنة المظلمة.

يهاجم بوكوفسكي بنجاح حكومة الولايات المتحدة ونظامها الرأسمالي، ومن حسن حظه أنه يفلت من اتهامه بالشيوعية.. وفي الرواية تلميحات إلى انخراطه في مجموعات يسارية ناشطة ضد الحرب وضد الثقافة الرسمية.. واستخدم عدة مرات مفردة “يا رفيق” المتداولة كثيرًا في الأدبيات اليسارية.

من يتأمل حياة بوكوفسكي يجد أنها حياة مكرسة للاحتجاج ضد تحويل الإنسان إلى مسمار صغير في آلة.. بمعنى أنه ظل يُكابر ويتحدى ويلعن ويسكر ويتمرد بالمقدار الذي هو متاح له، ولولا أن الأدب أنقذه، وهو في الخمسين من عمره، لأمضى حياته متذمرًا مشاكسًا غير متصالح مع القيم المجتمعية التي تحكمه وتتحكم به.

في الطبع البشري رغبة جارفة في التلصص على حياة الآخرين، ونكاد نلمح تخابث بوكوفسكي حين لبى هذا الفضول وأشبعه لدى القراء!

إن المجتمع الذي اضطهد بوكوفسكي وهمشه، هو نفسه المجتمع الذي وهبه ثروة حين عرّى نفسه. شخصية “تشيناسكي” التي رسمها بوكوفسكي تخالف في كاركترها الخط السائد للشخصيات التي أنتجها الأدب الأمريكي، فهي شخصية شوارعية لا تبالي بالأعراف الاجتماعية، فهي تقول بصراحة الكلام الذي نضمره وتمنعنا اللياقة من قوله.. وهي تعيش حياتها على هواها دون اعتبار لدين أو تقاليد.

نحت الناقد الأمريكي واين بوث (wayne c.booth) مصطلح “الراوي غير الموثوق به”، عام 1961 في كتابه “بلاغة الخيال”، أيّ أن الراوي الذي تُروى الرواية بلسانه هو مشكوك في مصداقيته، وربما معظم ما يقوله أكاذيب، أو حقائق تم تحويرها تبعًا لوجهة نظر الراوي. ولعل رواية “مكتب البريد” لبوكوفسكي تصح عليها فرضية الناقد واين بوث، فهي رواية ساخرة فيها ذبذبات سردية تشي بمكر الراوي وتلاعبه بالوقائع لتجميل صورته.. وهكذا نفهم ماذا كان يقصد بوكوفسكي بقوله إن 7% من السرد في روايته هو “تحسينات”.

رواية “مكتب البريد” هي أشهر أعمال بوكوفسكي، وتَصَادَف أنها تخلو تقريبًا من الخيال الأدبي، ما يعني أن انتماءها للأدب الرفيع مسألة فيها نظر.. لكن إذا وضعنا في الاعتبار أن بوكوفسكي خلق شخصية تشيناسكي وفق الرؤية الفنية التي تحدث عنها الناقد واين بوث، فإن هذا (المكر) السردي يكفيه ليعبر رغم الاحتجاجات إلى ضفة الأدباء الخالدين.

* روائي وكاتب يمني. 

   
 
إعلان

تعليقات