Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

قد يجد المهموم بتأليف الكتب الأدبية بهجة عظيمة في التهام كتاب “قوارب ورقية/ نصوص ونصائح في الكتابة الأدبية”، الذي أعده وترجم مادته الأديب المصري محمد عبدالنبي، فهو كتاب نفيس، وفيه جواهر فريدة لن تجد مثيلًا لها في أيّ كتاب آخر.

صدر الكتاب حديثًا (2024)، عن مكتبة تنمية بالقاهرة، ويحوي سبع عشرة مادة تنوعت ما بين المقالات والحوارات مع نخبة من أرفع أدباء العالم، بعضهم نال جائزة نوبل في الأدب، وبعضهم أسدى مساهمات تضعهم في مرتبة مساوية للفائزين بجائزة نوبل، مثل ريكاردو بيجليا، الذي يحظى بتقديرٍ عالٍ في الأوساط الثقافية المرموقة.

مقدمة محمد عبدالنبي الموسومة بـ”ليست قوارب نجاة”، لا تقل في جودتها وأصالتها عن المقالات القيّمة التي انتقاها بعناية من بين آلاف المواد المتناثرة في الصحافة الثقافية:

“في هذا ما يفسر اهتمامنا بقراءة ما تنشره الصحافة الثقافية من مقتطفات عن الكُتاب، أو حوارات أُجريت معهم لمناسبات مختلفة، أو كلمات ألقوها في هذا المحفل أو ذلك. وهذا قِوام مادة هذا الكتاب في معظمها؛ راجين أن نطل منها على عالمهم الداخلي الخاص، بلا تخييل أو تنميق الصنعة، ونود على الأخص أن يكشفوا لنا بعض أسرار صنعتهم والحيل التي يتوسلون بها إزاء عقبات الكتابة وتحدياتها”ص12.

يُفتتح الكتاب بمقالة “تأملات في الكتابة” للروائي الأمريكي هنري ميلر، الذي يشرح بكل ما أُوتي من بيان وفصاحة كيف نجا من تقليد أصوات الأدباء الآخرين والفوز بصوته الأدبي الخاص الخالص من الشوائب:

“اجتمعت فيّ جميع شرور الشخص المتعلم المثقف. كان عليّ أن أتعلم كيف أفكر، وأشعر، وأرى، على نحو جديد تمامًا، بطريقة غير مثقفة، بطريقتي الخاصة، وهو أصعب شيء في العالم”ص29.

بكلمات قليلة يكشف هنري ميلر سر تميزه عن مليون روائي آخر يكتظ بهم كوكب الأرض، وكيف انتزع بصمته الأدبية الخاصة من فم الوحش المسمى تلطفًا (الأدب)، هذا الكائن الذي يُطبق فمه فلا يكاد ينطق إلا في النادر.

ما يريد أن يوصله لنا هنري ميلر هو أن الكتابة الأدبية لابد أن تكون طازجة 100%، فلا ينفع أن يتدبر الكاتب أفكاره من مفكر أو كاتب آخر، حتى لو كانت هذه الأفكار أثيرة في قلبه، وليست كتابة أصيلة تلك التي كل ما فيها مستعار من أعمال الآخرين، وكما أن هناك مقولات صارت إكليشيهات من المعيب أن يعيد الكاتب استخدامها في أعماله، فكذلك هناك مشاعر قد بليت من فرط الاستخدام، وينطبق الأمر نفسه على الأفكار والشخصيات وزوايا الرؤية، التي قد تأتي مستنسخة من أعمال أدبية سابقة، أو حتى من مشاهدة الأفلام السينمائية.

وأما التقنيات فليس مطلوبًا من الكاتب التجديد فيها، التجديد الحقيقي يقع في منطقة المشاعر ونظرتنا إلى الوجود. فليس مهمًا ما هي الأداة التي يستخدمها الفنان في نحت الحجر، ولكن المهم الجمال الذي سيمتعنا به من خلال عمله الفني.

في حوار صحفي مع الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو، سأله المحاور إن كان يشعر بالملل؟ المغزى المبطن للسؤال الذي لا يخلو من شيء من الخبث هو إن كان يشعر بالملل من تأليف الأعمال الأدبية؟! أتى إيتالو كالفينو برد موفق تمامًا على هذه الشكوك التي تدور بأذهان القراء والمتابعين لأيّ مبدع، بغض النظر عن مجاله الفني:

“لا أعرف ما إذا كان لديّ الوقت لأصاب بالملل اليوم، غير أن عملي مسكون بالخوف من تكرار نفسي في أعمالي الأدبية. ولهذا السبب يكون عليّ في كل مرة أن أتوصل إلى تحدٍّ جديد لمواجهته. لابد لي أن أجد شيئًا سوف يبدو كأنه بدعة غير مسبوقة، شيئًا يتخطى إمكانياتي ولو قليلًا”ص57-58.

يكشف كالفينو أحد أسرار الصنعة: لماذا يستمر البعض في الإبداع، بينما يتوقف البعض في بداية الطريق أو منتصفه.. السبب هو الشعور بالملل!

لكي يتغلب المبدع على الشعور بالملل، عليه أن يواصل التفوق على نفسه إلى ما لا نهاية.. في كل يوم عليه أن يستيقظ من النوم ويحطم رقمه القياسي الذي أحرزه في اليوم السابق! والرقم القياسي الذي عليه أن يحطمه قد يكون فكرة جديدة أو شعورًا جديدًا، أو ببساطة تركيب جملة تولد لأول مرة على يديه.

إذا كف المبدع عن محاولة تحطيم أرقامه القياسية الشخصية، فإن الملل سيتسرب إلى دمه، ولن يكافح لإنتاج المزيد من الأعمال الفنية.

دُرة الكتاب مقالة كتبها ريكاردو بيجليا، مقالة قصيرة ومكثفة، عنوانها “فرضيات حول القصة القصيرة”، لكنها تغني عن قراءة ألف كتاب في النقد الأدبي! وربما بعد قراءة هذه الكتب الألف في النقد الأدبي لن تجد فيها ربع ملعقة من الرؤية الثاقبة لهذا المعلم الجليل.

ريكاردو بيجليا هو قاص وروائي أرجنتيني (1941 – 2017) اشتغل بتدريس أدب أمريكا اللاتينية في الولايات المتحدة الأمريكية، وربما أتاحت له هذه الوظيفة التعمق في فهم سر العبقرية الأدبية.

التلخيص لا يُغني عن قراءة المقالة، ولن يعطي صورة واضحة عن براعة ريكاردو بيجليا في فك وتركيب المحرك الذي تعمل بواسطته القصة القصيرة، إنما لغرض العرض في هذا المقال، أُشير إلى أنه طرح فرضيتين؛ الأولى أن تتكون القصة القصيرة من قصتين، الأولى مرئية والثانية سرية. والفرضية الثانية التي تحتاج إلى دراسة وفهم جاءت كما يلي:

“القصة السرية هي مفتاح الشكل في القصة القصيرة”ص110.

بالطبع لا يقصد بيجليا بالقصة السرية المعنى التأويلي للقصة القصيرة، فهذه طبقة من طبقات القصة المرئية، وليست قصة ثانية، وهو قد استحضر أمثلة وشواهد أدبية عديدة لشرح فكرته.

من المقالات المثيرة للاهتمام؛ مقالة جون كوين “كيف تكتب رواية في 100 يوم أو أقل؟”.

قبل الشروع في قراءة المقالة، خمنت أنها نوع من الشعوذة الأدبية! وكدت أفقد حماسي لمتابعة القراءة، لمعرفتي بانتشار هذا الهراء الدخيل على الأدب، الآتي من ثلاجات التنمية البشرية، وثقافة الوجبات السريعة، لكن جون كوين خيّب ظنوني، فجاءت مقالته على درجة عالية من الجودة والتميز. وهو يأخذنا في رحلة مشوقة مكونة من مئة يوم لإتمام كتابة رواية، مع تزويدنا بالتوجيهات الصحيحة لمتابعة العمل الشاق حتى الوصول إلى المراجعة النهائية.

جون كوين لا يخدع أحدًا، لا يقول إن الجميع يمكنهم أن يصبحوا روائيين، إنه يقول الحقيقة بكل تجرد:

“أن تكتب جيدًا ليس أمرًا هينًا، بل هو باهظ الكلفة عاطفيًا. يعرف راقصو الباليه – على سبيل المثال – أن أقدامهم سوف تُدمى، ويعرف عازفو البيانو أنهم سيتدربون حتى البكاء من آلام أصابعهم. كتابة رواية ليست مثل كتابة رسالة. كتابة رواية أمر منهك عقليًا، وأصعب كثيرًا من وظيفة بدوام كامل. حين تكتب رواية، تعيش الحياة الخاصة بشخصياتك”ص183.

مقالات أخرى يجد فيها القارئ لذة عظيمة، لا يتسع المجال لذكرها كلها هنا، وإنما تكفي الإشارة إلى أنه كتاب لا غنى عنه لأيّ إنسان قرر تسخير حياته من أجل الأدب.

* روائي وكاتب يمني

   
 
إعلان

تعليقات