Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

نعثر في المصادر التاريخية الإسلامية على نبذٍ من مناقب فارس العرب عمرو بن معد يكرب، وبين ثنايا السطور نلمح إشارات مقتضبة عن بطولاته في المعارك التاريخية الفاصلة، ومنها المعارك الرئيسية التي ساهمت في انتشار الدين الإسلامي في الشام والعراق وبلاد فارس، وهي معارك اليرموك والقادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، فهو مجاهد نال شرف المشاركة في أهم المعارك التي حولت العرب من أمة ضئيلة الشأن إلى قوة عظمى ذات وزن في العالم.

كان عمرو بن معد يكرب في كل المعارك التي خاضها يطلب من رفاقه في السلاح أن يدلوه على قادة العدو وأكابر فرسانهم ليشتبك معهم، فلم يكن يهاب أحدًا، لا من الروم ولا من الفرس، وكان يستعين بمن حوله قائلًا لهم: “دلوني على كبش القوم”، وكان وهو الخبير بالحرب يطبق هذه الاستراتيجية في المعركة، لإدراكه أن مقتل القائد أو الفارس الأعظم شجاعة في صفوف جيش العدو سيؤدي حتمًا إلى انهيار شامل في معنوياته وإلحاق الهزيمة به. وفي جميع المبارزات التي خاضها هذا البطل اليماني لم يخسر أيّ نزال، وخرج منها جميعًا منتصرًا نصرًا مدويًا تناقلته الأجيال تلو الأجيال، وخلَّدت كتب التأريخ إنجازاته الفروسية حتى صار مضرب الأمثال في الشجاعة والإقدام.

قال عمرو بن معد يكرب الزبيدي:

لقد علم الحُماةُ الشم أني/ أهش إذا دعيت إلى الطعانِ.

لكن الأمر الذي يدعو للعجب هو الإهمال التام لهذا البطل الصنديد الفريد من نوعه على مر التاريخ، فلم أجد كتبًا مفردة عنه تُفصِّلُ سيرة حياته، ولا عالمًا من علماء التأريخ قد أوفاه حقه من التقصي والبحث، وحتى أبناء جلدته اليمانيين لم ينهضوا لبيان فضله في الفتوحات الإسلامية، وإنزاله في المنزلة الرفيعة التي يستحقها.

اليماني الذي استدرك هذا التجاهل المريب لفارس اليمن هو العلامة الحسن الهمداني (280 – 336 هجرية)، فأتى على ذكره في كتابه الإكليل، ولم يتوسع كثيرًا، ولعله أورد معلومات أغزر عنه في الأجزاء المفقودة من الكتاب المذكور.

كذلك أتى على ذكره نشوان الحميري (500 – 573 هجرية) في كتابه “شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم”، ومع ذلك لا نشعر أنه قد أوفاه حقه.

وأما الجيل الحديث والمعاصر من اليمانيين، فلم أقف على كتب جديدة لهم تقفو آثار هذا الفارس الذي لا يتكرر.

الجانب الآخر المهم من شخصية عمرو بن معد يكرب هو أنه شاعر مبدع، وله قصائد كثيرة جمعت في ديوان، وظل هذا الديوان متداولًا إلى أن اختفى قبل 300 عام تقريبا.

مع الأسف حتى اليوم لم يُعثر على نسخة من ديوان عمرو بن معد يكرب، ولحسن الحظ نهض الباحث السوري مطاع الطرابيشي بمهمة جمع أشعار عمرو المنثورة في بطون كتب التراث وتنسيقها قدر استطاعته، وبعضها جاءت كشواهد نحوية في كتب علماء اللغة العربية، وبعضها فيها اضطراب من حيث صحة نسبتها إلى شاعرنا، وبعضها مختلق وملصق به، وهو ما أشار إليه الباحث الطرابيشي، وقال إن الجدل حول صحة نسبتها إلى عمرو بن معد يكرب لن يُحسم إلا بظهور مخطوطة ديوانه. وعنوان الكتاب “شعر عمرو بن معدي كرب الزُبيدي”، صدرت طبعته الأولى عام 1974 والثانية عام 1985 عن مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.

ومن غرائب الأمور أني وجدت في الكتب المتداولة عن صدر الإسلام مقولة شائعة للخليفة عمر بن الخطاب تطلب من قادة الجيوش الإسلامية عدم الأخذ بمشورة عمرو بن معد يكرب، وعلى هذا بنيت ظني سنوات طوال، ولكنني عندما قرأت كتاب مطاع الطرابيشي اكتشفت أن المقولة مُحرَّفة والصحيح هو العكس! يقول مطاع طرابيشي في الصفحة 34:

“وتشهد له بصدقٍ كلمة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ كتب إلى سعد بن أبي وقاص أو النعمان بن مقرن: يأمره أن يصدر في الحرب عن مشورة عمرو “فإن كل صانعٍ هو أعلم بصناعته”.

فمن له المصلحة يا ترى في تحريف كلام الخليفة عمر بن الخطاب؟ وهل للأمر علاقة بالصراع والتنافر بين العدنانية والقحطانية؟

تكثر في شعر عمرو بن معد يكرب الألفاظ القحطانية المخصوصة، التي لا توجد البتة في قصائد شعراء نجد والحجاز وبادية الشام وسواد العراق، وهذه الألفاظ ما تزال مستعملة في اللسان اليمني حتى يومنا هذا.

وفي هذه المفردات اليمانية تحديدًا وقع شُراح شعر عمرو بن معد يكرب في أخطاء جسيمة، وفسروا كلامه على غير معناه، وهم فطاحلة اللغة العربية الذين تضعهم الثقافة العربية موضع الإجلال والتقديس.. ولو كانوا على علم بلغات أهل اليمن لتوصلوا إلى التفسير الصحيح للمعاني التي يقصدها شاعرنا، وأضرب مثلًا بهذا البيت الشعري، يقول عمرو بن معد يكرب:

يمشون في حلق الماذي يقدمهم/ ضخم الدسيعة ما في سيره عنف.

والمعنى أن المحاربين من قبيلة زُبيد -قبيلة الشاعر- يخرجون للحرب شاكي السلاح، ويتقدمهم قائد القبيلة، أيّ عمرو، الذي وصف نفسه بأن قدمه كبيرة وتترك دسعته أثرًا يدل على ضخامة خِلقته، وأنه يقود الكتيبة من غير توتر أو عصبية.

وأخطأ الشُراح القدماء، وتابعهم كذلك في الخطأ الشُراح المعاصرون، حين فسروا مفردة “الدسيعة” فذكروا أن معناها “العطية”! فيكون معنى البيت مشوهًا وهو أن قبيلة زُبيد تمشي إلى الحرب يقودها شخص ضخم العطية.. وما أبعد هذا التفسير عن سياق البيت أليس كذلك؟

ومفردة “الدسعة” معروفة في العامية اليمنية الدارجة في صنعاء وسواها من مناطق اليمن، وأيّ يمني في وقتنا الحاضر لو سألته عن معناها لأعطاك الجواب الصحيح حتى ولو كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب.

وبدوري أتساءل كم عدد الأخطاء والأغلاط والأوهام التي وقع فيها علماء العراق والشام ومصر وسواها من الأمصار الإسلامية في مؤلفاتهم منذ القرن الثالث الهجري إلى يوم الناس هذا، بسبب إعراضهم عن لهجات أهل اليمن، واكتفائهم بلهجات نجد والحجاز؟؟

وجدت كتابًا من تأليف الباحث السعودي د. عبدالعزيز بن عبدالرحمن الثنيان، عنوانه “عمرو بن معد يكرب الزُبيدي.. الصحابي الفارس الشاعر”، صدر الكتاب عام 1994 عن مكتبة العبيكان بالرياض، وهو كتاب استقصى الشذرات المبثوثة في كتب التراث عن فارسنا العظيم، وهو جهد يستحق الإشادة والتنويه، ولكن كما أسلفنا ما تزال هناك الكثير من الحلقات المفقودة من سيرة عمرو لم تتكشَّف ويُزالُ عنها غبار التاريخ.

وأما ديوانه الشعري المفقود، فهذه دعوة لليمانيين ليقوموا بحملة وطنية للبحث عن مخطوطة ديوانه، وآمل أن نظفر بنسخة لنعيد إليه اعتباره كشاعر يماني كبير.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات