وجدي الأهدل*
هل يمكن للروائي أن يتجاوز تحليل الشخصية الفردية ليُحلل شخصية مدينة من المدن؟ إن من يقوم بهذه القفزة النوعية لابد أن يكون فيلسوفًا، ومتمكنًا من أدوات المعرفة الفلسفية.
تعد رواية “مريوم” للروائي والباحث اليمني د. عمر عبد العزيز الصادرة عام 2015 عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة رواية فلسفية من الطراز الرفيع، ونجد فيها تطورًا مدهشًا لهذا النوع الروائي، علمًا أنه نوع نادر جدًا في الأدب الروائي اليمني.
كذلك الرواية الفلسفية تحتل حيزًا ضئيلًا في الأدب العربي عامة، وقليلًا ما نعثر على أعمال تخوض في هذا الباب، لأنه من الأبواب البعيدة المنال عن العقليات التي لم تتذوق ثمار النظريات الفلسفية وتبحر في بحارها المتلاطمة، ثم تنجح في توظيف الأطاريح الفلسفية في سرد خيالي.
تتطلب الرواية الفلسفية من الروائي بناءً مغايرًا لسواها من الروايات الواقعية أو النفسية أو التاريخية، فمواد البناء تتشكل من نظره الفلسفي لا من معاينة الواقع أو استغوار الوعي، فهو بناء لُحمته لوامع الفكر لا الحبكة، وتوجه مساراته الأطوار الفكرية لا الأحداث الدرامية الاعتيادية، فالمنطق هنا لا يتسق مع المنطق الدرامي المعهود وليس له علاقة به، وإنما هو منطق ينزاح باتجاه المنهج العلمي الشبيه بنظرية داروين في الانتخاب الطبيعي.
إذًا اللوحات الفلسفية هي لحم وعظم الرواية، ولذلك ثمرتها لها مذاق مختلف، وتجلب متعًا عقلية وجمالية لا توصف.
ولكن لهذا النوع الروائي العالي المستوى ضريبة باهظة؛ لن يتمكن السواد الأعظم من القراء من التناغم مع هذا السرد البعيد الغور، المُلغَّز والمكتنز بالأسرار، ولن يتمكن القارئ الكسول من اجتناء المعاني التي تحتاج كدحًا ذهنيًا لتتكشف وتتجلى فتنتها وطلاوتها.
أيّ قراءة سطحية لسطور رواية “مريوم” وهي القراءة الغالبة في أيامنا هذه، لن تتصل بأفقها المجازي الغني بالدلالات والإشارات، وسيمر عليها القارئ المتعجل مرور الكرام، ويحسبها رواية تقليدية تقول كلامًا عاديًا لا جِدّة فيه، وأما الذي ينصتُ جيدًا ويتحرى عن المغزى، فإنه سيعثر على كنز لا يقدر بثمن:
رؤية تحليلية ثاقبة لواحدة من أكثر مدن العالم تطورًا وحداثة وثراءً، ألا وهي مدينة (دبي).
استنادًا إلى صورة فوتوغرافية التقطت في الأربعينيات، تتداعى الذكريات عن المدينة التي تحولت لاحقًا إلى أعجوبة:
“كل الحكاية بدأت بصورة فوتوغرافية عرضية قادمة من أربعينيات القرن المنصرم، عندما كانت دبي مدينة ساحلية بامتياز.. تنتظم في مساراتها أنساق من منازل خشبية تنتمي لأنماط العمارة الإنجليزية الفيكتورية، وأخرى هندية البناء، وبعض من “البراجيل” المحلية المنتصبة أمام الشموس والضياء، وكثرة كاثرة من المنازل المشيدة من الخوص وسعف النخيل”ص5.
ثم يتركز السرد على (مريوم) بطلة الرواية وتحولاتها العجائبية، وكيف كانت البدايات مليئة بالمآسي والمعاناة، وكيف عايشت ضروبًا مختلفة من الشقاء، وكيف انتهى بها المطاف منتحرة بطريقة غير مباشرة، حين أعطاها المداوي مرهمًا للجلد، وحذرها من ابتلاعه، فلفت انتباهها إلى وسيلة للخلاص من حياتها.
تبدو شخصية مريوم عصية على التفسير، والجميع من حولها يراها غريبة الأطوار:
“التائهة القادمة من اللامكان، بدت في حارة البحار الزرقاء كما لو كانت نورسًا ضل طريقه، وكما لو أنها كائن مقيم في عوالمه الغرائبية حد الخصوصية الخاصة، فلم تكن تعول على ما يجري في الحارة من أخبار وأحاديث وأحوال..”ص16
“مريوم أنثى جاءت من المجهول، وهي مجنونة بحسب النواميس والأعراف المجتمعية السائدة.. ثم إنها بلغت من الجنون حدًا جعلها تعيش حياة رثة.. تمشي في الشوارع دون هدف.. وتتعرض للشمس الحارقة في هجير الصيف.. وتقتات مما يجود به حمد الطيب، ولا تختلف في دورة حياتها اليومية عن أيّ قطة متشردة في الحارة”ص19.
وكما أسلفنا فإن مريوم القديمة تموت، أو بالأحرى ترتاح من بؤسها بتجرع المرهم، لتولد مرة أخرى في جسد امرأة شابة تحمل اسم “مرام”.. كما هو معروف في عقيدة تناسخ الأرواح.
ويصور الروائي هذه الولادة الجديدة تصويرًا بديعًا، وينتج مشهدية بصرية هي واحدة من الذرى الأدبية الباذخة:
“ربوة القبر البيضاء ترنحت، فتماوجت، فاعتلت، فتهادت كعود خيزران، لتحلق بعيدًا، فيما بدت مريوم المنبعثة من مرقدها العابر كما لو أنها نورس كبير يحلق بأجنحة بيضاء لسفينة شراعية صوب مكان جديد. كان مشهدا توراتيا ذلك الذي شاهده الخلق منبهرين، فقد مرت تلة مريوم المسافرة من فوق رؤوسهم.. سابحة صوب المدى الآخر البعيد.. هنالك حيث انبثقت دبي الجديدة، بأبراجها الزاهية، ومروجها الملونة، وشوارعها الناعمة، وأنوارها الشفقية، وساحاتها الياقوتية. تماهت الكتلة المكانية القادمة من الماضي مع جديد المكان النائر، فولدت مريوم الثانية ذات الضفائر الطويلة، والقامة السامقة، والعيون الرائية كما زرقاء اليمامة”ص38.
اختار الروائي أن يكتب الرواية بلغة البلغاء المتصوفة، إذ استعار مصطلحاتهم للتعبير عن رؤاه الفلسفية وتحليلاته العميقة للموضوع الذي يعالجه، وقد وفق في ذلك غاية التوفيق، فنجا النص السردي من برودة المقولات الفلسفية وثقلها غير المرغوب في نطاق الأدب.
وتحفل الرواية بالشواهد الشعرية، جلها من شعر المتصوفة، وهذا على غير العادة في الأعمال الروائية، فأضفت رونقًا على النص، وشرحت باختصار ما يرمي إليه المؤلف دون احتياج إلى الإسهاب والإطالة.
وقد أشار الناقد المغربي عبدالفتاح كيليطو إلى خلو الرواية الغربية من الأبيات الشعرية، وأن الرواية العربية تابعتها في ذلك، وأن من يخالف تلك القاعدة التي لم يقرها أحد، فكأنما يأتي بفعل مخالف للذوق! وبالطبع يستنكر كيليطو تقليد الروائيين العرب لنظرائهم الروائيين الأوروبيين في هذا الأمر، ويرى من وجهة نظره أن الرواية العربية ليست ملزمة بالتقاليد الأدبية الأوروبية، وعليه ما العيب في أن يستشهد الروائي العربي بأبيات من الشعر في عمله الروائي؟!
يُراوح العمل الأدبي بين قطبين: روايات تقول ما يقال، وروايات تقول ما لا يقال.. وتنتمي رواية “مريوم” للقطب الأدبي الموجب، فهي تقول ما لا يقال، وتوضح مدى التزام الروائي بغائية الفن الذي يزاوله:
“مريوم تقبع الآن في مربع فقدان المعيار لهويتها العصرية المقرونة بالمواطنة القانونية، كما أنها بعيدة عن الجوهر الأصيل لمعنى العروبة، بوصفه انتماءً أنثربولوجيا صادرا عن بيان الكلام واللسان، كما قال بذلك النبي العربي محمد “صلى الله عليه وسلم”، كما أنها تتقاطع سلبا مع جوهر الدين الإسلامي الذي استقام على مغادرة شاملة للمنطق العصبوي الإثني، فما بالنا بالقبيلة والعشيرة والعائلة!”ص61-62.
يلخص الروائي رؤيته عن الإنسان المعاصر الذي تمكن من التغلب على الجاذبية وتشييد ناطحات السحاب بقوله:
“هكذا جرت الأيام في مدينة المرايا العالية، والبروج الشاهقة، والكائنات الملتصقة بالأرض.. حتى وإن بدت كالنعامة التي تكاد أن تطير”ص74.
تعطينا الرواية جوابًا لا لبس فيه: كلما ارتفع البنيان تضاءلت روح الإنسان!
هل يعلم الإنسان الذي يشيد ناطحات السحاب أنه يخلق بذلك صراعًا غير مرئي بين المادة والروح؟؟ وأن الإنسان الذي يعيش في هذه البيئة محكوم عليه بخوض هذا الصراع دون علمه؟؟
يتلمس الأدباء والفنانون أطياف هذا الصراع المدمر للروح البشرية ويعبرون عنه بوسائلهم الفنية، ويُزهر هذا الموقف في تحديهم لمدن الحديد والزجاج التي تقزم الإنسان وتسحق هويته، ورواية “مريوم” للروائي عمر عبد العزيز تنتمي إلى هذا الموقف الإنساني النبيل وتعززه.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات