“فرضت الحرب على اليمنيين
حياة قاسية خوفاً من الموت
تحت الأنقاض أو تحت خط الفقر”
صنعاء – أحمد الأغبري
بعد سنوات طويلة من الاستقرار بائعاً (للتُمبّاك) في مسقط رأسه بمديرية المخا محافظة تعز/جنوب غرب…دفعت الحرب (قاسم، 50 عاماً) لمغادرة مدينته ومفارقة عائلته والاتجاه إلى صنعاء في رحلة تتجدد متاعبها يومياً بين الأرصفة بائعاً للجبن التقليدي في مواجهة من حكايات أخرى لهذا النزيف اليمني تحت خط الفقر في سياق المأساة الحقيقية للحرب هناك؛ إنها حياة الناس!
بلا شك هي تجربة صعبة أن تنتقل من عمل رافقك لسنوات طويله إلى عمل آخر تتشرّب فيه، على مضض، متاعب جديدة، تتضاعف آلامها تحت نيران حرب يعيشها البلد، وعطلت، منذ عامين ونصف، معظم أشكال الحياة هناك؛ ودمرت كثير من مقدرات البُنية التحتية، وقتلت أكثر من خمسة آلاف وأصابت أكثر من ثمانية آلاف من المدنيين الأبرياء منهم أكثر من 2700 طفل قتيل وجريح منذ مارس/اذار 2015م، وفق بيانات أممية.
لقد خلّفت الحرب في اليمن أوضاعاً اقتصادية ومعيشية معقدة اتسعت معها المأساة الإنسانية لاسيما مع انتشار الأوبئة وانهيار نسبة كبيرة من المنظومة الصحية وتوقف العمل في كثير من المرافق الخدمية… وما صاحب ذلك من ارتفاعٍ في مؤشرات سوء التغذية الحاد وتدني في مستويات العافية عموماً مع ظهور مهددات المجاعة، حيث طالت 17 مليون نسمة حتى آذار (مارس) من هذا العام، حسب المدير التنفيذي لمنظمة الغذاء العالمي لمكافحة الجوع خوسيه غراتسيانو، أي بزيادة 20% عن التقييم الذي حصل العام الماضي. موضحاً أن “7 ملايين يمني هم في المرحلة الرابعة من المجاعة، والمرحلة الخامسة هي المرحلة الأخيرة حين يسقط الناس صرعى”، مشيراً إلى أن ثلاثة أرباع الجياع هم في المحافظات اليمنية الشمالية.
تضاعف هذه المؤشرات من المخاوف وبخاصة في ظل عدم وجود أي ملامح انفراج في الأفق.
حرب أخرى
يعيش اليمنيون بموازاة هذه الحرب، التي سلبتهم حتى أحلامهم، حرباً أخرى أشد فتكاً؛ وهي التي يتدبّرون، خلالها، احتياجاتهم المعيشية اليومية حفاظاً على ما بقي مُتاحاً لهم من حياة تزداد تعقيداً يوماً بعد آخر، بل يكاد عدد ضحايا الفقر والجوع والمرض الراحلين بصمت هناك، يتجاوز عدد مَن يسقطون في جبهات المعارك…مما يعني أن اليمنيين يعيشون حالياً حربين: حرب النار، وحرب البطن والعافية داخل دائرة تلك النار المستعرة…إنهم يعيشون حياة قاسية خوفاً من الموت تحت الأنقاض أو تحت خط الفقر وبين فكي المرض!
وفقاً لتقرير شهر سبتمبر/ أيلول الماضي لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (اوتشا) في اليمن؛ فإن 1.25 مليون من موظفي الحكومة في البلاد لم يستلموا رواتبهم لنحو عام؛ وهو ما يعني أن أكثر من ربع سكان البلاد لا يتلقون رواتب منتظمة، “وقد دمر ذلك سبل معيشتهم”. ونتيجة لذلك يكافح غالبية الناس من أجل توفير الحد الأدنى من متطلبات العيش، ومع ذلك لا يتوفر منه إلا النذر اليسير وبمشقة.
“7 ملايين يمني هم في المرحلة الرابعة من المجاعة،
والمرحلة الخامسة هي المرحلة الأخيرة
حين يسقط الناس صرعى”
حياة قاسية
لقد أصبحت الحياة قاسية جداً على اليمنيين، وهم يحاولون التكيّف مع ظروف الحرب، وزيادة على هذا تجدهم لا يعرفون متى سيتوقف هذا التداعي المستمر في أوضاعهم. ثمة حكايات كثيرة تعكس ما وصلت إليه تلك الأوضاع. تقرير (اوتشا)، المُشار إليه آنفاً، أورد نموذجين لهذه الحال: إبراهيم، 47 عاماً، الذي يعيش مع أطفاله الأربعة وأم مصابة بالسكري..:”لقد عملتُ محاسباً لمدة 25 عاماً، ولكني الآن أعيش مع أقاربي؛ لأنني لم أعد قادراً على تحمّل الإيجار”. يوضح “لم أتلق راتباً لمدة 10 أشهر، وكان عليّ البحث عن بدائل لتوفير دخل لأسرتي. فعملت في طلاء المنازل وعملت أيضاً عاملاً في سوبر ماركت حتى أتمكن من شراء الضروريات لأسرتي”. ووفق النسخة الإنكليزية من التقرير اطلعت عليها “اليمني الأمريكي”؛ فإن إبراهيم يعيش، اليوم، إلى حد كبير على الصدقة. قال: “كنتُ أعيش حياة كريمة ولم أطلب من أي شخص أن يعطيني. “لقد دعمني أقاربي خلال هذه الأزمة. أنا ممنون لهم. ولكن، باعتباري المُعيل الرئيس لأسرتي، فإن الاعتماد على الأعمال الخيرية قد حطم كرامتي”. ابراهيم قلق على والدته: “أردتُ أن أخذها إلى الخارج لتلقي العلاج الطبي، ولكن لا يمكن أن نخاطر بالسفر بالسيارة إلى سيئون (22 ساعة) أو عدن (10 ساعات) للوصول للقاهرة أو عمّان بالطائرة”. “ستكون الرحلة محفوفة بالمخاطر. واختياري الوحيد هو انتظار مطار صنعاء لإعادة فتحه”.
أمل كاذب
كذلك الحال مع نجاة، وهي معلمة في المدينة، متزوجه من موظف حكومي ولها طفلان، تلقت آخر راتب كامل قبل ثمانية أشهر. قالت: “أتلقى نصف راتب مع قسائم للأغذية والملابس”. “ويتلقى زوجي أيضاً نصف راتب. لقد أخذنا ابنتنا من المدرسة الخاصة إلى مدرسة عامة لا تفرض رسوماً على التعليم. نحن نعيش في شقة، ولكن بالكاد يمكن دفع الإيجار. كل شهر، نحن نقترض حوالي 30،000 ريال (120 $) من الأصدقاء والعائلة “…وتعتزم الأسرة مغادرة اليمن: “نحن نبحث عن مخرج”. “ليس لدينا مستقبل هنا. لقد تعبت من التمسك بالأمل الكاذب. أريد أن أعيش حياة بسيطة في جو آمن وصحي لأطفالي. هنا، أشعر أنني سجين يحاول الهرب. أنا لا أعرف ما فعلناه لاستحقاق هذه المعاناة”.
العيش المُتاح
تعكس حكايتا إبراهيم ونجاة واقع معاناة موظفي الرواتب المنتظمة في اليمن بعد توقف صرفها جراء الحرب …فماذا عن وضع مَن يعتمدون على مِهن حُرة؟!…لن يكون الوضع أفضل، بل قد يكون أسوأ..فـ قاسم، رجل خمسيني، متزوج ولديه خمسة أبناء، وهو من أصحاب المهن الحرة والجوالة، يعمل في بيع الجُبن التقليدي بصنعاء. تحدث لـ”اليمني الأمريكي”: كنتُ أعمل في بيع الشمَّة (التُمبّاك)، كنتُ أبيع منه يومياً ما يوفر لي دخلاً بسيطاً كنتُ راضٍ بالعيش به مستقراً مع أولادي”. “عندما اندلعت الحرب، كنت أتوقع أن تتوقف خلال فترة قصيرة، لكن أمدها طال وانفقت ما كان لديّ. لم يكن أمامي سوى أن أغادر بحثاً عن عمل؛ فتركت عائلتي وسافرت إلى صنعاء”. في هذه المدينة يعيش قاسم حكاية أخرى:” سافرتُ وأنا لا أملك ريالاً. واستقريت في بيع الجُبن البلدي(التقليدي)؛ لأنه لا يحتاج لرأس مال بقدر ما يحتاج إلى أن يعرفك الموزّع؛ ليعطيك كمية، تعود بعد بيعها لتسديد قيمتها”. مضى على قاسم في هذا العمل فترة لا بأس بها، لكنه مازال لا يملك مالاً” لأن ما أبيعه بالكاد أسدد منه قيمة الجبن وأكل وأشرب فقط. بالكاد أعيش، وبعض الشهور أخرج مديوناً”. عائد زهيد جداً يجنيه قاسم ويعيش منه بصعوبة في صنعاء، أما عائلته في مسقط رأسه، فهي” تعتمد على والدي”. يتنقل قاسم، بأناء بلاستيكي يحفظ فيه الجُبن، بين أكثر من رصيف لثماني ساعات يومياً، “أجني يومياً ما بين خمسمئة ريال وأحياناً أربح أكثر وأحياناً أخسر الفين ريال”.
زيادة على آلام انقطاع قاسم عن عائلته في غُربة بالكاد يعود فيها نفسه فقط؛ يضعه هذا العمل، في مواجهة قاسية مع مَن (يشاركهم الحياة تحت خط الفقر بأقل من دولارين في اليوم)…فيتعرّض لحكايات كثيرة يقرأ فيها، كل يوم، تفاصيل جديدة لمأساة الحرب الحقيقية في بلاده…حياة الناس!
تعليقات