وجدي الأهدل*
بعد وفاة أنطون تشيخوف عُثر على هذه الفكرة في أحد دفاتره:
“رجل في مونتي كارلو يذهب إلى كازينو للقمار، يربح مليونًا، يعود لمنزله، ؟”.
هناك كلمة واحدة ناقصة قمنا بحذفها عمدًا، واحدة فقط، وعلى القارئ تخمين هذه الكلمة، وريثما يخمن كل قارئ كلمته، سنعود إلى هذه الأقصوصة التشيخوفية لاحقًا ونضيف الكلمة الأخيرة.
إذن لنؤخر التطرق إلى العباقرة الذين يصعب شرح سر تميز إبداعاتهم العظيمة، ولنبدأ بنقاش بسيط حول بناء السيناريو، إذ يتكون السيناريو من ثلاث وحدات: التمهيد، التطوير، حل العقدة.
لا شيء أسهل من هذا أليس كذلك؟ لكن هذه السهولة خادعة لمن جرب فعلًا كتابة السيناريو!
مُحرم قطعًا أن ينطلق السيناريست في كتابة السيناريو والنهاية ليست واضحة في ذهنه.
إيقاع السيناريو ينبغي أن يكون سريعًا، الإيقاع البطيء يؤدي إلى احتضار التشويق، وغالبًا سيفقد المشاهد اهتمامه ويكف عن المتابعة.
ومثال الإيقاع البطيء تطويل الحوار وتبادل جمل مكررة، أو المشاهد التأملية حيث يقف البطل يتأمل من نافذة غرفته الشارع وهو يدخن، فهذا المشهد لا يمكن أن يستمر لأكثر من خمس ثوانٍ، ولكن إذا استمر البطل يدخن لأكثر من ثلاثين ثانية وهو لا يفعل شيئًا آخر، فالحل هو إيداع السيناريست في مصحة للأمراض النفسية والعصبية.
السيناريست المحترف لا يتسرع في إخبار المشاهدين بما لديه من معلومات، ولا يفعل ذلك بطريقة فجة مكشوفة، إنه يفعل ذلك بالتقسيط ليُضفي جوًا من الغموض على السيناريو، وهو يتعمد جعل المشاهدين يعيشون على أعصابهم بانتظار بصيص من نور يهديهم إلى فهم ما يجري.
في المشاهد التمهيدية يُركز السيناريست على التفاصيل التي تشير إلى الحقبة الزمنية لقصة السيناريو، والموقع الجغرافي الذي تجري فيه الأحداث، وذلك لكي يدخل المشاهد في السياق التاريخي والاجتماعي للفيلم منذ الدقائق الأولى.
ويمكن أن تُكتب على الشاشة جملة توضح الحقبة التاريخية أو الإشارة إلى سنة محددة، مثل أن يكتب في السيناريو ما يلي:
(تظهر الجملة التالية على الشاشة:
عدن – 13 يناير 1986).
وعلى الفور سوف يفهم المشاهد الجو العام للفيلم.
بعض كُتاب السيناريو يبتكرون افتتاحيات مثل الاستهلال بصوت خارجي، فينطق البطل أو البطل السنيد بالجمل الأولى التي تكشف زمان ومكان وأبطال الفيلم، وهذه الطريقة أشد وقعًا في نفوس المشاهدين من الاستهلال المطروح كتابة.
وفي الجزء التمهيدي من السيناريو يحبذ أن يحصل المشاهد على أحاسيس تنبئ بالصراع القادم.. وهنا يقوم السيناريست ببذر بذور الصراع بتلميحات لخلق التشويق والترقب لما سيأتي.
ينتهي القسم التمهيدي بتفجير الحدث الدرامي المنتظر، وهو الحدث الذي بُذرت نُذره في المشاهد التمهيدية.
في القسم الثاني من السيناريو (التطوير) سوف يتجلى بوضوح الهدف الذي يسعى إليه البطل، كالانتقام أو الفوز بقلب فتاة أو الخروج من وضع صعب الخ. وهذا الهدف سوف يتعارض مع أهداف الشخصيات الأخرى، وهكذا يخلق السيناريست (العقدة الدرامية).
ومن الممكن أن نخلق عددًا من العقد الدرامية بعدد الشخصيات الرئيسة، وكُتاب السيناريو الأكثر مقدرة يجعلون حتى للشخصيات الثانوية أهدافًا تسعى إلى تحقيقها، مما يزيد من تشابك وتعقد الأحداث.
عندما يصل السيناريست إلى (الذروة) فإنه يكون قد وصل إلى ختام القسم الثاني من السيناريو (التطوير)، ويبدأ القسم الثالث (الحل) في الظهور، ويأخذ الخط الدرامي الصاعد منذ بداية السيناريو في التوقف عند الذروة، ثم النزول بسرعة مع حسم الصراع وتلاشي التوتر.
وهذا القسم الثالث (الحل) يُفترض أن يكون قصيرًا للغاية مقارنة بالقسمين الأوليين، والأرجح أن يشكل 1% فقط من حجم السيناريو.
أحيانًا يُفضل السيناريست النهاية المفتوحة، وهذا لا يُلغي القسم الثالث، بل يضعنا أمام نهاية قابلة للتخمين والتأويل، فبدلًا من نهاية واحدة محددة، يُوجد السيناريست عددًا غير محدد من النهايات، ويترك للمشاهد مساحة لإكمال الباقي وإقفال العمل بحسب مستوى ثقافته الفنية.
نعود إلى تشيخوف وإلى تلك الفكرة التي دونها في دفتره على أمل أن يطورها إلى قصة قصيرة، لكن الموت قد داهمه قبل أن يتمكن من كتابتها في حلتها النهائية، وآمل أن القراء قد فكروا هم أيضًا في إيجاد الكلمة الناقصة من أقصوصة تشيخوف، والآن نزيح الآن الستار عن الكلمة الناقصة:
“رجل في مونتي كارلو يذهب إلى كازينو للقمار، يربح مليونًا، يعود لمنزله، ينتحر”.
نكتشف هنا سر أيّ عمل فني عبقري.. قصة واحدة لا تكفي، لابد أن نمتلك قصتين وندمجهما معًا في مزيج واحد.. وفي الفكرة التشيخوفية تمّ تكوين هذا المزيج بمهارة، فالقصة الأولى هي عن الرجل الذي ربح مليونًا من القمار، والقصة الثانية التي تتكون من كلمة واحدة هي عن انتحاره.
هكذا يعلمنا تشيخوف أن أيّ عمل سردي سواءً كان قصة قصيرة أو رواية أو مسرحية أو سيناريو أو أيّ شكل آخر من أشكال النثر لابد أن يحتوي على قصتين، والرابط بين القصتين هو عنصر المفارقة.. شيء مدهش أليس كذلك!
العجيب هو أن قصة الرجل الذي ربح مليونا من القمار تافهة لا قيمة لها، ويستطيع أيّ كاتب عديم الموهبة أن يكتبها، لكن القصة الثانية التي تتكون من كلمة واحدة “ينتحر” هي التي تقلب الأمور رأسًا على عقب، وتحول العمل إلى مادة أدبية ثمينة وله ملامح أصالة فنية لا يرقى إليها الشك.
التشبيك بين قصتين سر أتقنه عباقرة الأدب على مرّ العصور، سواءً كانوا واعين به، أو أتى لهم على طبق من ذهب بسبب الموهبة الفطرية التي مُنحت لهم منذ مولدهم.
إذا افترضنا أن تشيخوف أراد أن يستغل فكرته ويُشكِّلها لا في قالب قصصي، ولكن في قالب سيناريو فيلم سينمائي، فإنه سيكتب مشاهد عن رجل تستحكم في نفسه الرغبة في الموت، وحتى عندما يرزق حظًا عظيمًا ويربح ثروة، فإن الموت سيظل هو مسعاه النهائي.. قد يحذف حتى مشهد انتحاره الفعلي، ويكتفي بأن يرينا الموت يرافقه كظله في كافة المشاهد.
تشيخوف السيناريست سوف يبني سيناريو فيلمه على أساس القصة الثانية “ينتحر”، فالقصة الأولى هي المادة الخام، والقصة الثانية هي عنصر التشكيل، فهي التي تُنشئ كل المسارات في الفيلم وتتحكم في تطورها، وهي التي تقفلها.
مدينون نحن للروائي الأرجنتيني ريكاردو بيجليا ومقاله “فرضيات حول القصة القصيرة” الذي منحنا لمحة عن الطريقة التي يبني بها العباقرة أعمالهم، ولمن أراد الاستزادة عليه العودة إلى كتاب “قوارب ورقية”، ترجمة وإعداد محمد عبدالنبي.
يقول ألبرت أينشتاين “يجب أن تجعل كل شيء أبسط ما يمكن، ولكن ليس أبسط من ذلك”، وهذا القول ينطبق أيضًا على الأعمال الأدبية والفنية.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات