Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

هل يمكن للأدب أن يقوم بدور ما في إنقاذ اليمن من ويلات الحرب والتشرذم السياسي؟

الأدب مَعْنِيٌ أساسًا بإنقاذ الروح البشرية الخالدة، لا في مكان محدد ولا زمان محدد، ومع ذلك اضطرارًا ونظرًا لانسداد كل أفق للحل الإنساني، فإن على الأدب أن ينزل من عليائه ويمدَّ يده لإنقاذ النفوس البشرية الفانية، ويهبها إشارة إلى طريق جديد مشرق يؤدي إلى الخير.

إذا وافقنا أن بإمكان الأدب أن يتدخل ليكون عاملًا من عوامل الحل الإنساني في اليمن، فإن السؤال التالي الذي يطرح نفسه؛ هو كيف يمكن للأدب أن يفعل ذلك؟

الجواب يمكن التلميح إليه بصياغة مصطلح جديد أيضًا، يناسب الغرض الذي نسعى إليه، وهذا المصطلح هو (الواقعية الإيجابية).

ونقاد الأدب يعرفون أن “الواقعية” تيار أدبي نشأ في القرن التاسع عشر في أوروبا، ثم تفرعت منه عدة فروع، مثل “الواقعية الاشتراكية” و”الواقعية السحرية” و”الواقعية النقدية”.

(الواقعية الإيجابية) تعني إنتاج أعمال أدبية وفنية تحمل رسالة إيجابية للمتلقي، بهدف أن يقوم المتلقي بمحاكاة العمل الأدبي والفني.

المعتاد أن يحاكي العمل الفني الواقع، أما الواقعية الإيجابية فإنها تسعى إلى العكس: أن يُحاكي المتلقي العمل الفني.

يتنبأ العمل الأدبي والفني المنتمي لتيار (الواقعية الإيجابية) بمستقبل مشرق ومزدهر، وبمجتمع يسوده السلام والوئام والرخاء والوفرة المادية، وبظهور شخصيات عظيمة تقود التغيير الإيجابي.

وعندما يتلقى الجمهور هذه الأعمال الأدبية والفنية، فإنه يتأهب لهذا التغيير الإيجابي، ويشتاق لحدوثه، ويساهم كلٌ من ناحيته في ولادة التغيير الإيجابي الذي يتطلع إليه الجميع.

في حالة بلد كاليمن وصل إلى الحضيض بسبب الحروب وتمزق النسيج الاجتماعي، فإن هناك ضرورة تاريخية تستدعي مساهمة فعالة من جانب المثقفين في بناء السلام والأمل والعدالة.

يمكن للمثقفين ممارسة دورهم التنويري بواسطة استخدام (الواقعية الإيجابية) كوسيلة للتأثير على الجماهير، عبر الشعر والقصة والرواية والمسرحية والأغنية واللوحة التشكيلية والفيلم، وسواها من وسائل التعبير، ليتخذ السواد الأعظم من الناس موقفا مناهضًا للحرب ومساندًا للسلام، وأن يساهم محتوى هذه الأعمال (الإيجابي) في تبيين الطريق الصحيح نحو المواطنة المتساوية والقوانين العادلة.

لن تحتاج المجتمعات المستقرة إلى هذا النوع من الأساليب الأدبية والفنية، لأن الأثر المحمود المطلوب مُتحقق على أرض الواقع بالفعل، ومع ذلك فإننا نلاحظ أن المجتمعات المستقرة التي تخشى من القلاقل الاجتماعية، وتملك نظرة بعيدة المدى للمستقبل، توظف تقنية (الواقعية الإيجابية) لنزع فتيل تفشي العداء بين الطبقات أو الفئات الاجتماعية، تلك الشرارات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى نشوب الحروب الأهلية.

أحد أسباب تماسك المجتمع في أمريكا رغم تعدد هوياته وأصوله العرقية، يعود إلى السينما الأمريكية، التي تظهر أبطالًا متفوقين أخلاقيًا وأشداء جسديًا، وتحمل رسائل ضمنية إيجابية للمجتمع الأمريكي.

إذا قمنا بالمقارنة، رغم التفاوت الهائل، فإننا سنلاحظ مقدار تهافت شخصيات الأبطال في الدراما اليمنية، وأنها منذ ميلاد شخصية (دحباش) في تسعينيات القرن الماضي تُكرس شخصيات هزلية هزيلة جسديًا ومتدنية عقليًا، وتحمل رسائل سلبية للمجتمع اليمني.

قد يقول قائل إن (الواقعية الإيجابية) هي دعوة لإنتاج نوع دعائي من الفن، أدب وفن من الدرجة الثانية، يفقد قيمته بانتهاء الغرض منه، فهو إنتاج سطحي مُعد للاستهلاك الآني.. فهل هذه المثلبة صحيحة؟

الجواب قطعًا لا، لأن بإمكان الأديب والفنان العمل بجدية لتجويد عمله، فيظهر المنتج الأدبي أو الفني متمتعًا بالأصالة، ومنتميًا إلى الأدب الجيد والفن الجيد.

أُجازف واستشهد هنا بقصة قصيرة عنوانها “قوانين صغيرة” لعلها تشكل نموذجًا لـ(الواقعية الإيجابية)، فهذه القصة القصيرة تنتمي إلى أدب الخيال العلمي، وفرع من فروعه يسمى “التاريخ البديل”.

يقول ديفيد سِيد مؤلف كتاب “الخيال العلمي:

“إذا كان في وسع الإطار الزمني للخيال العلمي الرجوع إلى الخلف مثلما ينطلق إلى الأمام، فليس من المستغرب بدء ظهور جنس أدبي مع نهاية القرن التاسع عشر يتمحور حول تكهنات الكُتاب بمسارات بديلة من المحتمل أن التاريخ المعروف قد اتخذها.. غالبًا ما تهدف قصص التاريخ البديل إلى طرح تكهنات حول العالم المعاصر، بما أنها تعتمد على ثغرة زمنية ارتجاعية تتركز تدريجيًا في حاضر القارئ” ص 109-110.

إن الثغرة الزمنية الارتجاعية التي استندتُ عليها في قصة “قوانين صغيرة” لتخييل تاريخ بديل لليمن تعود إلى ربيع عام 2014:

((بعد فترة وجيزة من اختتام الحوار الوطني اليمني أوائل عام 2014، ظهر في وسائل الإعلام إعلان عن وظيفة شاغرة:

“مطلوب رجل أو امرأة لشغل منصب رئيس الجمهورية، ويشترط أن يكون المتقدم يمني الجنسية، ويجيد القراءة والكتابة، ويتمتع بحسن الخلق”.

الرئيس الذي قدم استقالته رحل إلى جزر الكناري ليقضي فترة تقاعده هناك، متمنيًا للشعب اليمني التوفيق والسداد)).

تترشح فتاة اسمها (صغيرة) لمنصب رئيس الجمهورية، وبعد اجتيازها لاختبارات شاقة، تفوز بالمنصب، وتقود اليمن خلال فترة حكمها الطويلة (2014-2050) إلى الازدهار والاستقرار والرفاه، وتنجح في تحويل اليمن من دولة فاشلة إلى دولة قوية ذات مكانة دولية عظيمة:

((سُمي عهدها بـ”العصر الذهبي للجمهورية”، وتركت منصب رئيس الجمهورية وقد أصبحت اليمن دولة مستقرة ومزدهرة، والمواطنون يتمتعون بالرفاهية والثروة.

وكان من أبرز إنجازاتها خلال عهدها الميمون:

بناء (هزاف) العاصمة الجديدة لليمن، التي وصلت إلى المركز الثامن في قائمة أكثر مدن العالم حداثة. القضاء على الأمية. اختفاء البطالة. اندثار القات نهائيًا من اليمن. ارتفاع متوسط دخل الفرد إلى رقم مقارب لمتوسط دخل الفرد في أوروبا الغربية. حلّ الجيش والمخابرات، والاكتفاء بقوات الشرطة. نجاح مشروع التشجير، وجبال اليمن القاحلة تحولتْ إلى غابات مد النظر لمئات الكيلومترات. نجاح مشروع وضع النقود في صرافات آلية خاصة للمحتاجين، موزعة على شوارع الأحياء الفقيرة، وانتهاء ظاهرة العوز والتسول والتشرد من المجتمع اليمني. تدني نسبة جرائم الغش والسرقة والاحتيال إلى نسبة تقترب من الصفر. بناء نفق بحري تحت مياه مضيق باب المندب، يربط بين قارتي آسيا وأفريقيا، والإحصائيات تشير إلى نقل مئة مليون راكب عبر النفق، ونقل ملايين الأطنان من البضائع بين القارتين، وخزينة الدولة تحقق عائدات ضخمة من المشروع. اليمن تشهد نهضة ثقافية جبارة، وتحرز المرتبة عشرين عالميًا في عدد العناوين الجديدة من الكتب التي تصدر سنويًا. تصنيف اليمن كواحدة من أفضل دول العالم من حيث تعايش الأديان والطوائف، وتمتع المواطنين بحرية المعتقد والتسامح الديني)).

إن هذا النوع من الخيال الأدبي يتوافق مع الطموحات المشروعة لكل مواطن يمني يأمل لبلده الخروج من مستنقع الحروب إلى واحة السلام، وأن يصبح بلدًا ترفرف السعادة على كافة أرجائه.

(التاريخ البديل) ليس الأداة الفنية الوحيدة التي يمتلكها الأدب للمساهمة في تكوين الشخصية اليمنية تكوينًا جديدًا، وبعث قواها من بين الرماد، ففي جراب الأدب أدوات أخرى كثيرة يمكن تطويعها بهدف خلق التناغم الروحي بين أبناء الشعب الواحد، وتوحيد صفوفهم باتجاه رؤية صافية من الشوائب والنغم النشاز، رؤية أصيلة نابعة من الفطرة الإنسانية التي تنشد الخير العام والقوانين العادلة والحياة الكريمة للكل دون استثناء.

من الأدوات الفنية التي يمكن للأدب الاشتغال عليها تلك المتعلقة بالعودة إلى التاريخ اليمني، والتركيز على الأحداث التاريخية التي حقق فيها اليمانيون بطولات تحمل المعاني الإيجابية التي نتوخاها، فينتج الأدباء قصصًا وروايات ومسرحيات تدور حول هذه الإشراقات التاريخية، بهدف تعزيز الهوية الجامعة للأمة اليمنية، وبث مشاعر الفخر والاعتزاز بما سطَّره الأجداد من أمجاد في نفوس الجيل الحالي الذي لا يعلم شيئًا عن ماضي بلاده التليد.

ويمكن لاحقًا للمشتغلين في مجال الدراما، تحويل هذه الأعمال الأدبية إلى روائع يشاهدها الملايين إما عبر المسلسلات التلفزيونية، أو الأفلام السينمائية، أو أفلام الرسوم المتحركة الانيميشن.

ولعلنا نلاحظ كيف ركز صُناع الإعلام في تركيا على الدراما التاريخية، فأنتجوا مسلسلات تلفزيونية تتغنى بأمجاد تاريخ الأتراك، وبطولاتهم ومآثرهم وعظمتهم، والرسالة الضمنية هي تعزيز الفخر القومي بالهوية لما يربو على الثمانين مليون مواطن تركي، وهو ما نجحتْ في تحقيقه تلك الدراما التاريخية نجاحًا مبهرًا، ولاشك أن هذا النوع من الدراما التاريخية (الإيجابية) تصنع درعًا روحيًا متينًا للأتراك يحميهم من مكائد الأمم المعادية لهم.

تحتاج الأمة اليمنية إلى صناعة درع روحي يحميها من التدخلات الأجنبية، من أيّ طرف كان، وهذا الدرع الروحي لا يستطيع السياسيون ولا العسكر سبكه، وإنما المثقفون هم القادرون على اجتراح هذه المأثرة الروحية الكبرى.

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات